في القرن التاسع عشر، لم يكن اكتشاف النفط أمراً مضموناً أو موضع ثقة، لكن في عام 1859، غيّر رجل الأعمال الأمريكي إدوين دريك مسار التاريخ عندما عثر على أول خزان نفط في تيتوسفيل بولاية بنسلفانيا، ليطلق شرارة عصر النفط الحديث. اليوم، وبعد أكثر من 160 عاماً، يشهد العالم سباقاً جديداً يشبه تلك اللحظة التاريخية، لكن الهدف هذه المرة ليس "الذهب الأسود"، بل "الذهب الأبيض" للطاقة وهو الهيدروجين الطبيعي.
ما هو الهيدروجين الأبيض؟
الهيدروجين هو أصغر وأخف جزيء في الطبيعة، ويُستخدم حالياً في صناعات رئيسية مثل تكرير النفط وإنتاج الأمونيا للأسمدة. لكن معظم إنتاجه العالمي يتم عبر عمليات ملوثة تعتمد على الغاز الطبيعي أو الفحم، وهو ما يخلّف انبعاثات كربونية كبيرة.
خلال السنوات الأخيرة، اتجهت الأنظار نحو أنواع بديلة منخفضة الانبعاثات:
الهيدروجين الأخضر
يُنتج من فصل جزيئات الماء باستخدام الطاقة المتجددة، وهو نظيف لكنه مكلف جداً.
الهيدروجين الأزرق
يُصنع من الوقود الأحفوري، مع احتجاز وتخزين الكربون لتقليل الانبعاثات، لكنه مثير للجدل بسبب تسربات الميثان.
أما الهيدروجين الأبيض، أو الجيولوجي، فهو نوع طبيعي يتشكل في باطن الأرض نتيجة تفاعل المياه الجوفية مع الصخور الغنية بالحديد في عملية تُعرف بـ"السربنتينية". وفي ظروف جيولوجية معينة، يُحتجز هذا الغاز تحت طبقات صخور منخفضة النفاذية، مثل الملح أو الصخر الزيتي، مكوّناً خزانات محتملة للاستغلال التجاري.
حجم الاحتياطي العالمي
وفقًا لدراسة هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عام 2024، قد تحتوي التكوينات الجيولوجية حول العالم على ما بين مليار و10 تريليونات طن من الهيدروجين الطبيعي، مع تقدير متوسط يبلغ 5.6 تريليونات طن. ورغم أن معظم هذه الكميات قد تكون في أعماق كبيرة أو مواقع نائية، فإن استغلال 2% فقط منها يمكن أن يلبّي الطلب العالمي على الهيدروجين لمدة تصل إلى 200 عام، وبطاقة تعادل ضعف احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة عالميًا.
السباق العالمي للاستكشاف
بدأت شركات الطاقة والمستثمرون في ضخ أموالهم نحو هذا المجال الناشئ، حيث أعلنت أكثر من 60 شركة حول العالم عن مشاريع لاستكشاف الهيدروجين الأبيض، باستثمارات تقترب من مليار دولار، وفق تقرير لشبكة "BBC".
أبرز التحركات كانت في الولايات المتحدة وأستراليا، حيث تم البدء بأعمال حفر تجريبية بحثاً عن خزانات اقتصادية.
كما أن أوروبا وآسيا بدأت في تحديد مناطق استكشاف محتملة على طول سلاسل الجبال، من الألب إلى الهيمالايا، باستخدام نماذج جيولوجية متطورة.
إريك غوشيه، عالم الكيمياء الجيولوجية الفرنسي وعضو مجموعة خبراء الهيدروجين الأبيض في وكالة الطاقة الدولية، يرى أن هذه المرحلة قد تكون بداية "عصر جديد للطاقة"، شبيه بلحظة انطلاق صناعة النفط في القرن التاسع عشر، متوقعاً أول اكتشاف كبير خلال 3 إلى 4 سنوات.
مالي
المثال الوحيد المعروف لاستخدام الهيدروجين الأبيض تجارياً موجود في قرية بوراكيبوغو غرب مالي. في عام 1987، أدى انفجار صغير أثناء حفر بئر ماء إلى اكتشاف تدفق هيدروجين شبه نقي من عمق الأرض. ومنذ ذلك الحين، يُستخدم الغاز لتوليد الكهرباء للسكان المحليين، ما قدّم للعالم نموذجاً حياً لإمكانية استغلال هذا المورد.
تحديات الاستكشاف والإنتاج
رغم الحماس، يعترف الخبراء بوجود تحديات كبيرة أمام اعتماد الهيدروجين الأبيض كمصدر رئيسي للطاقة، منها:
عدم وضوح حجم الاحتياطي القابل للاستخراج
يقول علماء هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إنه لا توجد بيانات كافية لتقدير الكميات القابلة للإنتاج اقتصادياً.
معدل التجدد غير معروف
يوضح البروفيسور لوران تروتش من جامعة غرونوبل أن معدل توليد الهيدروجين في الطبيعة قد يكون أبطأ من وتيرة استهلاكه إذا تم استغلاله تجارياً.
الموقع مقابل الطلب
غالبًا ما توجد الخزانات في مناطق بعيدة عن مراكز الاستهلاك الصناعي، ما يزيد من صعوبة النقل والتخزين.
النقاء والتكوين
كثير من الاكتشافات تتضمن غازاً مذاباً أو ملوثاً بالميثان، ما يعقد عمليات الإنتاج.
الأثر البيئي المحتمل
رغم أن الهيدروجين الأبيض يُسوّق على أنه وقود نظيف، إلا أن استغلاله قد يترك بصمة كربونية.
المخاطر البيئية تشمل:
تسرب الهيدروجين
قد يطيل عمر الميثان في الغلاف الجوي، مما يزيد من تأثيره كغاز دفيئة.
انبعاثات الميثان المصاحبة
بعض الخزانات تحتوي على نسب كبيرة من الميثان، وهو أقوى من ثاني أكسيد الكربون بـ80 مرة على مدى 20 عامًا.
البنية التحتية
أعمال الحفر والنقل تحمل بدورها انبعاثات كربونية.
دراسة أولية تشير إلى أنه في حال احتواء الخزان على 75% هيدروجين و22.5% ميثان، يمكن أن تصل الانبعاثات إلى 1.5 كجم من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل كيلوجرام هيدروجين منتج، مقارنة بـ1.6 كجم للهيدروجين الأخضر.
الآفاق المستقبلية
حتى لو تحقق اكتشاف تجاري كبير خلال السنوات المقبلة، يتوقع الخبراء أن الأمر سيستغرق عقداً أو أكثر لبناء صناعة متكاملة للهيدروجين الأبيض على نطاق واسع. ورغم الشكوك، يظل الأمل قائمًا بأن يصبح هذا المورد إضافة مهمة لمزيج الطاقة العالمي، خاصة في الصناعات التي يصعب خفض انبعاثاتها بالكهرباء.
لكن، كما حدث مع النفط في بداياته، قد يحتاج العالم إلى مزيج من الحظ والتكنولوجيا والرؤية الاستثمارية لتتحول هذه الآمال إلى واقع.
الهيدروجين الأبيض قد يكون فرصة تاريخية لتأمين وقود نظيف منخفض الكربون وبكميات هائلة، لكنه لا يزال في مرحلة البحث والاكتشاف، مع تحديات تقنية واقتصادية وبيئية يجب معالجتها قبل أن يتحول إلى ركيزة أساسية في مستقبل الطاقة.
ما الفرق بين الهيدروجين الأبيض والأخضر؟
الهيدروجين الأبيض والأخضر يختلفان اختلافا جوهريا في المصادر وطريقة الإنتاج والأثر البيئي، مما يجعل لكل منهما ميزاته وتحدياته الخاصة في إطار التحول العالمي للطاقة النظيفة.
الهيدروجين الأبيض، المعروف أيضا بالهيدروجين الطبيعي أو الجيولوجي، يُستخرج من باطن الأرض حيث يتجمع في خزانات طبيعية تحت الصخور منخفضة النفاذية، مثل الصخور الملحية أو الصخر الزيتي. يتشكل هذا الغاز نتيجة تفاعلات طبيعية بين المياه الجوفية والمعادن الغنية بالحديد، في عملية تعرف باسم "السربنتينية".
وعلى الرغم من أن الهيدروجين الأبيض يُعتبر منخفض الكربون من الناحية النظرية، إلا أن بعض الخزانات تحتوي على غازات مصاحبة مثل الميثان، والذي يُعد غاز دفيئة قويا، ما قد يؤدي إلى انبعاثات كربونية إذا لم يُحتجز الغاز بشكل مناسب خلال الاستخراج وفقا لموقع "ieaghg".
إضافة إلى ذلك، الإنتاج التجاري للهيدروجين الأبيض لا يزال محدودًا للغاية ويواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالنقل والتخزين، فضلاً عن صعوبة تحديد حجم الاحتياطي القابل للاستخراج اقتصاديًا، إذ تختلف تراكيزه حسب الموقع الجيولوجي وقد يكون جزء كبير منه بعيدًا عن المناطق الصناعية أو عميقًا جدًا تحت سطح الأرض. تكلفة استخراجه منخفضة نسبيًا، إذ تتراوح بين 0.5 إلى 1 دولار أمريكي لكل كيلوغرام، ما يجعله منافسًا للوقود الأحفوري من حيث التكلفة.
أما الهيدروجين الأخضر، فهو يُنتج صناعيا من الماء عبر عملية التحليل الكهربائي باستخدام الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، وهو يُعد خيارًا نظيفًا تمامًا لأنه لا يصدر أي كربون أثناء الإنتاج . يتميز الهيدروجين الأخضر بقدرته الكبيرة على تخزين الطاقة لفترات طويلة، مما يجعله مناسبًا لتطبيقات النقل والطيران والصناعات الثقيلة التي يصعب إزالة الكربون منها بالكهرباء مباشرة.
مع ذلك، فإن إنتاج الهيدروجين الأخضر يتطلب بنية تحتية ضخمة للطاقة المتجددة، إضافة إلى تكاليف مرتفعة نسبيًا مقارنة بالهيدروجين الرمادي أو الأزرق، ما يجعله أقل تنافسية حاليًا في الأسواق. لكنه قابل للإنتاج في أي مكان يتوافر فيه الماء والطاقة النظيفة، وهو أكثر قابلية للتحكم من حيث الإنتاج وجودة الغاز مقارنة بالهيدروجين الأبيض الذي يعتمد على ظروف جيولوجية محددة وغير قابلة للتجديد بنفس الوتيرة.
الهيدروجين الأبيض يمثل مورداً طبيعياً واعداً قد يساهم في توفير وقود منخفض الكربون على المدى الطويل، ولكنه محدود ومقيد بالتوزيع الجغرافي والظروف الطبيعية، بينما الهيدروجين الأخضر خيار مستدام ومرن من حيث الإنتاج، لكنه مكلف ويتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة المتجددة. الجمع بين الاثنين قد يخلق مزيجًا قويًا لمستقبل الطاقة النظيفة، مستفيدًا من وفرة الأبيض ومتانة واستدامة الأخضر .
