تحرز تقنيات الذكاء الاصطناعي تقدماً مذهلاً، وصار شريكاً في تفاصيل الحياة كلها، حتى إن قيمته السوقية بلغت بنهاية العام الماضي نحو 276.2 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 1.81 تريليون دولار بحلول عام 2030 حسب تقرير «غراند فيو للأبحاث». ومع هذا التطور صارت الآلات قادرة على الرؤية والسمع، فهل يمكن أن تتمكن مستقبلاً من الإحساس والشعور كالبشر؟

يرى سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة Open AI أن الذكاء الاصطناعي يسير بخطى متسارعة نحو تجاوز القدرات البشرية في العديد من المهام، وفي المقابل تنبأ إيلون ماسك مالك منصة «إكس» أن الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر ذكاءً من البشر بحلول عام 2029، أما جيفري هينتون الملقب بعراب الذكاء الاصطناعي فلا يعتقد بأن الآلات ستتمكن يوماً من الشعور، ولكنه يحذر من لحظة قد يبدأ فيها الذكاء الاصطناعي باتخاذ قرارات مستقلة بعيداً عن تدخل الإنسان. «البيان» حققت في الموضوع، وهذه هي النتيجة.

الإمكانات الحقيقية

البداية كانت مع حيدر عزيز، نائب رئيس منطقة الشرق الأوسط وتركيا وأفريقيا في «فاست داتا»، الذي قال: الطبيعي ألا يكون لدى الآلة عواطف كما عند البشر، لكنها تزداد قدرةً على فهم ما يدور حولها وتفسيره. وبفضل تقنيات مثل الرؤية الحاسوبية، والتعرف إلى الصوت، وأجهزة الاستشعار البيئي، بات بإمكان أنظمة الذكاء الاصطناعي إدراك محيطها والتفاعل معه بشكل لحظي.

والمفترض أن ما يُحدث تحولاً حقيقياً ليس مجرد الإدراك، بل القدرة على اتخاذ القرار؛ أي أن تتمتع الآلات بقدرة على الإحساس، والتفكير، والتعلم، والتصرف بشكل مستقل من دون تدخل بشري. وهذا ما نُطلق عليه «عصر الوكلاء» في الذكاء الاصطناعي، فنحن نشهد ذلك بالفعل في مجال الرعاية الصحية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي دعم الطاقم الطبي من خلال فرز المرضى باستخدام بيانات الصوت والصور، وكذلك في القطاع المالي، حيث يراقب ويتنبأ ويمنع عمليات الاحتيال قبل وقوعها.

بعض هذه الأمور بدأ يحدث بالفعل، لكن في العديد من الدول والمؤسسات لا يكفي الاعتماد على الخوارزميات وحدها، بل يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى بنية تحتية مُصممة خصيصاً للعمل في الوقت الفعلي وبذكاء. ومع وجود بنية تحتية مناسبة، يمكن دعم الأنظمة المستقلة التي تعيش وتعمل داخل البيانات نفسها. لقد تغيّرت المفاهيم التقليدية للحوسبة مع تمكين الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى البيانات واكتسابه قدرة أكبر على «الإحساس» والتفاعل. ومع انتشار هذه البنية التحتية على نطاق أوسع سنرى الإمكانات الحقيقية للذكاء الاصطناعي.

تأثير اقتصادي

أما سيرجي كوليوبين، مدير الأبحاث في شركة بولينوم، فيقول: نحن نتعمق الآن أكثر في اتخاذ القرار في مجالات الأتمتة والروبوتات؛ فالأمر مرتبط كثيراً بالإدراك واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق ذلك، بما في ذلك النماذج اللغوية الكبيرة والنماذج اللغوية المرئية، لجعلها أكثر كفاءة، وتحويلها ليس فقط إلى رحلات تكنولوجية وبحثية، بل أيضاً إلى منتجات يمكن أن يكون لها تأثير اقتصادي في الصناعات الكبرى في منطقة الخليج العربي وحول العالم.

ويستدرك: لكن هناك بعض الخوف من استبدال الذكاء الاصطناعي بالبشر، رغم أن هذه ليست المرة الأولى في تاريخ البشرية، الذي شهد العديد من التحولات، والثورات الصناعية، حيث لم نعد نستخدم قوة الخيول في النقل، بل لدينا الآن قطارات سريعة، وسيارات، ذاتية القيادة، وما إلى ذلك. لذا، نحن نتأقلم بطريقة ما، ويُظهر التاريخ أن التطور التكنولوجي يفتح وظائف جديدة بدلاً من مجرد تحويل مشهد العمل.

يضيف كوليوبين: ولأكون صادقاً، أعتقد أن هذا هو الاتجاه الصحيح، لأننا نأخذ في الغالب بعض الوظائف الروتينية. ومع ذلك، لا يزال الذكاء الاصطناعي موجّهاً بواسطة الذكاء الطبيعي، الذي يحدد القيم والأولويات، ويوجه التطوير، لذا فهو محكوم من قِبل البشر. ما زلنا نحتفظ بهذا الدور، لكن لدينا أدوات جديدة، وتخيلوا معي لو أن الخوارزمي أو ابن سينا كانت لديهما الأدوات التي نمتلكها الآن؛ هل يمكن تخيل مدى التطور الذي يمكن أن نصل إليه؟

داعم للبشر

يؤكد رامي أبو عرجة، المدير الأول للابتكار في مجموعة «يانغو»، أن الفترة الأخيرة شهدت تطوراً كبيراً في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت الآلات قادرة على الرؤية والسمع، وأن الأعمال التي كانت تتطلب جهداً كبيراً من عدد كبير من الناس، يمكن الآن تنفيذها بكفاءة أعلى وبمجهود أقل بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي. نحن نرى في هذه التقنيات دعماً للبشر، حيث تقلل من نسبة الأخطاء وتزيد من الإنتاجية، بالإضافة إلى تطوير روبوتات تحاكي القدرة البشرية وتعمل في البيئات المعقدة وغير المتوقعة، لمساعدة الشركات على تبسيط عملياتها، وتقليل الحاجة إلى التدخّل اليدوي، ما يجعلها صديقة ومساعدة في الحياة اليومية، ونحن نؤمن بأن الذكاء الاصطناعي يعزز قدرات البشر ويدعمهم، مما يسهّل الحياة اليومية.

مجرد أداة

بينما يرى أليكسي سيدوروف، خبير علم البيانات في شركة دينودو، أن الذكاء الاصطناعي ليس أكثر من أداة، يتفوّق في معالجة البيانات، واكتشاف الأنماط، وتقليد التفاعل البشري؛ لكنه يفتقر إلى الإحساس، تلك الوظيفة البيولوجية البحتة؛ فالوعي ليس شيفرة، ولا تستطيع محركات الرسوميات محاكاة الناقلات العصبية أو الجوهر الإنساني. الذكاء الاصطناعي اليوم يُشبه طياراً آلياً بالغ الدقة؛ لا يشعر بالألم ولا بالرغبة، بل يتقن التنبؤ.

ومع ذلك، فإن اندماج الإنسان بالآلة، قد يضخم الحواس البشرية. هناك يكمن التحول الجوهري: ليس في آلة تشعر، بل في إنسان يرتقي. ويضيف: بات الذكاء الاصطناعي اليوم اليد الخفية التي تُعيد صياغة ملامح الحضارة؛ من الهاتف والسيارة إلى أبسط الأجهزة المنزلية. فهو يُدير سلاسل الإمداد، ويسهم في علاج الأمراض، ويبتكر الدعاية.

غير أن قوة بهذا الحجم لا تخلو من خطرٍ موازٍ؛ إذ قد يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة موجهة ضد صانعيه إذا غاب عنه الضبط والتوجيه. الخيار بين نهضة غير مسبوقة وانزلاق نحو المجهول يتوقف على مدى مواءمة هذه التقنية مع القيم الإنسانية. المطلوب اليوم تطويرٌ سريع، لكن بتوجيه صارم؛ فسلامة الحياة ذاتها رهينة بسلامة المسار.