في عالم تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية وتتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية، ظهرت العناصر الأرضية النادرة، أو كما يسميها البعض "معادن المستقبل"، التي تدخل في صناعة كل شيء من الهواتف الذكية إلى الطائرات الحربية. ورغم انتشارها الجغرافي الواسع، إلا أن السيطرة الفعلية على هذه الكنوز الخفية تتركز في يد واحدة: الصين. فكيف وصلت بكين إلى هذه الهيمنة؟ ولماذا تقف الولايات المتحدة اليوم على عتبة معركة اقتصادية جديدة من أجل استعادة النفوذ في هذا القطاع الحيوي؟
في أعماق قبو يعود لحقبة الحرب العالمية الثانية قرب فرانكفورت، يحتفظ لويس أوكونور، مدير الاستثمار في شركة "ستراتيجيك ميتالز إنفست"، بأغلى أصوله: عناصر أرضية نادرة. هذه المعادن التي تبدو للبعض "نادرة" بالاسم فقط، أصبحت مركزًا لتوترات اقتصادية وجيوسياسية متصاعدة بين الولايات المتحدة والصين.
وكشف تقرير لموقع "إن.بي.آر" أنه على الرغم من أن هذه العناصر متوفرة عالميًا، إلا أن الصين تسيطر بشكل شبه كامل على عمليات التكرير، وهي المرحلة الأكثر أهمية لتحويل هذه المعادن إلى مكونات تستخدم في الهواتف الذكية، مكبرات الصوت، والطائرات المقاتلة.
الصنبور الصيني
في ربيع هذا العام، فرضت بكين نظام ترخيص جديداً لتصدير سبعة عناصر أرضية نادرة. الأمر الذي أدى بشركات أمريكية وأوروبية الى الاضطرار لإغلاق خطوط إنتاجها، ما أكد أن الصين تتحكم فعليًا في "صنبور" التوريد العالمي. وصف أوكونور هذا الوضع قائلًا: "إنهم يتحكمون في الصنبور. يمكنهم فتحه أو إغلاقه متى شاءوا".
هذه السيطرة ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة عقود من التخطيط والسيطرة على سلاسل الإنتاج، بدأت منذ الستينيات حين زار مسؤولون صينيون منجم "ماونتن باس" الشهير في كاليفورنيا لتعلم التقنية الأمريكية، ثم عادوا ليبنوها بأنفسهم على الأراضي الصينية.
من الفوضى إلى السيطرة
شهدت صناعة المعادن الأرضية النادرة في الصين خلال العقود الماضية نموًا عشوائيًا وغير منظم، حيث تنافست مئات المصانع والمناجم الصغيرة، ما أوجد فوضى بيئية وسوقية. لكن بحلول أواخر التسعينيات، قررت بكين التحرك: فرضت حصصًا على الإنتاج والتصدير، وأطلقت "حربًا سرية" لإعادة هيكلة الصناعة.
خطة "واحد زائد خمسة" – التي أطلقتها الحكومة الصينية – كانت تهدف لدمج الشركات الصغيرة في ستة كيانات ضخمة تسيطر على السوق محليًا ودوليًا، وأُطلق عليها لاحقًا اسم "الستة الكبار". ومن خلالها، استطاعت بكين فرض أسعار موحدة والحد من المنافسة.
الولايات المتحدة تحاول العودة
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة الآن لاستعادة موطئ قدمها في هذه الصناعة. شركات مثل "نيوكورب" و"فينيكس تيلينغز" تحاول فتح مناجم جديدة، أو إعادة تكرير المخلفات المعدنية. لكن المشكلة تبقى في التمويل، إذ لا تزال الاستثمارات تتجه نحو شركات التكنولوجيا الكبرى بدلاً من دعم مشاريع التعدين.
ومع تقييد الصين لتصدير المعادن هذا العام، بدأ المستثمرون الأمريكيون يستفيقون. حصلت "فينيكس تيلينغز" على تمويل ضخم في مايو، وبدأت ببناء مصنع في نيوهامبشير قيل إنه سيلبي نحو نصف احتياجات البنتاغون من هذه المعادن.
المعركة مستمرة
هيمنة الصين على العناصر الأرضية النادرة ليست مجرد قصة نجاح صناعي، بل أداة سياسية واقتصادية حادة تستخدمها في صراع القوى العظمى مع الولايات المتحدة. ومع تزايد أهمية هذه المعادن في الصناعات العسكرية والتقنيات المستقبلية، تبدو هذه "المعركة الخفية" أبعد ما تكون عن نهايتها.
