التخفيض الأخير للفائدة الأمريكية في ديسمبر 2024

وسط أجواء من الحذر والترقب، يتهيأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لعقد اجتماع حاسم للجنته المعنية بالسياسة النقدية، وسط توقعات واسعة بأن يبقي على أسعار الفائدة دون تغيير، وذلك امتداداً لنهج اتخذه الفيدرالي طوال العام، حيث أبقى على مستويات الفائدة مرتفعة نسبياً كأداة رئيسية لكبح جماح التضخم، الذي ظل يؤرق صناع القرار في ظل ضغوط داخلية وخارجية متنامية.

غير أن معضلة الفيدرالي لا تقتصر على مؤشرات التضخم وحدها، بل تمتد لتشمل تعقيدات سياسية وتجارية وحتى جيوسياسية فرضت نفسها على المشهد الاقتصادي الأمريكي، فالرسوم الجمركية التي تبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أعادت رسم مسار التجارة الدولية، أثارت قلقاً داخل أروقة البنك المركزي من أنها قد تغذي موجة جديدة من ارتفاع الأسعار، ما يحد من قدرة البنك على تيسير السياسة النقدية في المدى القريب، حتى مع تراجع نسبي في مؤشرات التضخم الكلي.

في هذا السياق، تتخذ العلاقة بين ترامب والاحتياطي الفيدرالي طابعاً متوتراً، إذ لم يتردد الرئيس ترامب في توجيه انتقادات حادة للبنك بسبب ما اعتبره «تشدداً مبالغاً فيه» في السياسة النقدية، متهماً الفيدرالي بإبطاء الاقتصاد وعرقلة فرص النمو. ومن المرجح أن تتجدد هذه الضغوط السياسية في حال اختار الفيدرالي تثبيت الفائدة كما هو مرجح، مما ينذر بموسم جديد من التجاذبات بين المؤسسة النقدية المستقلة والسلطة السياسية.

ويقف الاحتياطي الفيدرالي عند مفترق طرق حساس: فمن جهة، يسعى لضمان استقرار الأسعار وحماية القوة الشرائية للأسر الأمريكية؛ ومن جهة أخرى، يواجه ضغوطاً سياسية وتجارية تهدد حياده التقليدي. وفي ظل هذا التوازن الهش، سيكون لاجتماع الأربعاء دلالات تتجاوز مجرد قرار بشأن سعر الفائدة، ليعكس إلى حد بعيد حجم التعقيد الذي بات يحكم معادلة السياسة النقدية في أكبر اقتصاد في العالم.

وتسعر الأسواق - حتى يوم الجمعة الماضي - احتمالية خفض سعر الفائدة بنسبة لا تتجاوز 3% فقط، وذلك وفقاً لأداة FedWatch التابعة لمجموعة CME، والتي تتنبأ بتحركات أسعار الفائدة استناداً إلى بيانات تداول العقود الآجلة للفائدة الفيدرالية.

وكان الفيدرالي قد خفض سعر الفائدة آخر مرة في ديسمبر الماضي بمقدار ربع نقطة مئوية، لتستقر عند نطاق يتراوح بين 4.25% و4.50%.

وكان المركزي الأمريكي قد أشار في اجتماعه الأخير في مايو إلى أن مخاطر ارتفاع التضخم والبطالة قد ازدادت.

مراقبة البيانات

يقول كبير محللي الأسواق المالية في شركة FXPRO، ميشال صليبي لـ «البيان»: إنه على الرغم من التباين الواضح في المؤشرات الاقتصادية الصادرة أخيراً - سواء بين مؤشرات الوظائف وكذلك التضخم وإنفاق المستهلكين وأيضاً أسعار المنتجين، بالإضافة إلى مؤشرات أخرى مرتبطة بالصناعة في الولايات المتحدة - إلا أن التوجه العام يشير إلى أن الفيدرالي الأمريكي لن يقدم على خفض أسعار الفائدة في اجتماعه المرتقب.

يأتي هذا القرار المحتمل - في تصور صليبي - رغم الضغوط المتزايدة التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على جيروم باول لخفض الفائدة بمقدار نقطة أساس كاملة، إلا أن هذه الضغوط لم تترجم حتى الآن إلى سياسات واقعية. ويرى أن الوضع الجيوسياسي المتأزم في الشرق الأوسط، وعودة أسعار النفط إلى الارتفاع نتيجة التوترات الراهنة، قد يدعمان توجه الفيدرالي للإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير.

ويضيف: إن أي قرار بخفض الفائدة قد يتأجل إلى النصف الثاني من العام الجاري (مع احتمال خفضها 25 نقطة أساس في سبتمبر إذا دعت تطورات السوق لذلك)، في حال استمرت مؤشرات عدم اليقين في الأسواق، خاصة إذا ارتفع التضخم وتراجعت بيانات الوظائف الأمريكية، على الرغم من أنها جاءت أخيراً أفضل من المتوقع. كما يشير إلى أن الفيدرالي الأمريكي سيكون في موقف حرج، إذ إن عودة التضخم مع تراجع النمو قد تؤدي إلى حالة من «الركود التضخمي»، وهي سيناريو لا ترغب فيه الأسواق ولا صانعو السياسات. وبالتالي، من المرجح أن يواصل الفيدرالي مراقبة البيانات الاقتصادية بحذر، دون اتخاذ قرارات متسرعة، خصوصاً مع تصاعد المخاوف من تأثير الحرب على أسعار الطاقة والأسواق العالمية.

وتسارع التضخم الرئيسي في الولايات المتحدة إلى 2.4% في مايو، على أساس سنوي، بما يتماشى مع التوقعات. فيما ارتفع التضخم الأساسي، الذي يستثني سلع الطاقة والغذاء المتقلبة، 2.8% للفترة عينها، وهو معدل أفضل من التوقعات.

الرسوم الجمركية

وفي السياق، يجد بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه أمام معادلة شديدة التعقيد وهو يزن تأثير الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاقتصاد الأمريكي والعالمي. فعلى الرغم من التراجع النسبي لمعدلات التضخم واقترابها من الهدف البالغ 2%، لا تزال المخاوف قائمة من أن تؤدي هذه الرسوم إلى عودة الضغوط التضخمية، ما يدفع الفيدرالي إلى التريث في خفض أسعار الفائدة. فخفض الفائدة في هذا التوقيت، رغم فوائده المحتملة على النمو وفرص العمل، قد يأتي بنتائج عكسية إذا ما أسهم في تغذية موجة ارتفاع جديدة في الأسعار.

وقد عبر عدد من مسؤولي الفيدرالي، قبيل دخولهم في فترة التعتيم الإعلامي استعداداً لاجتماع السياسة النقدية، عن رغبتهم في التريث لحين قياس الأثر الفعلي للرسوم الجمركية على أداء الاقتصاد، ذلك أن الرسوم تشكل تهديداً مزدوجاً؛ فهي ترفع الأسعار من جهة، ما يضغط على هدف السيطرة على التضخم، وقد تضعف النشاط الاقتصادي من جهة أخرى، ما ينذر بزيادة البطالة. وفي ظل هذا المأزق، يظل القرار النهائي معلقاً بمدى وضوح المسار المستقبلي للتضخم وسوق العمل، وهو ما يجعل الاحتياطي الفيدرالي أكثر تحفظاً في التحرك نحو التيسير النقدي.

البيانات الاقتصادية

بدوره، يشير المدير التنفيذي لشركة V I Markets، أحمد معطي لـ «البيان» إلى أن «الفيدرالي الأمريكي سوف يستمر في سياسة التثبيت، وهذا واضح وصريح، لكن القرار لا يرتبط بالبيانات الاقتصادية في المطلق؛ فالبيانات الأخيرة كانت إيجابية وبعضها يسمح للفيدرالي بالتفكير في خفض الفائدة في الاجتماع ما بعد المقبل.. لكن الواقع الجيوسياسي تغير تماماً بعد اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل، فلم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت البارود. ومع صعود أسعار النفط ووصولها إلى 74 دولاراً، بدأت المخاوف من استمرار ارتفاعها، مما قد يشكل ضغطاً على الفيدرالي بسبب احتمال عودة التضخم من جديد».

ويضيف: «هذا نفس ما حدث عند اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في فبراير 2022؛ ارتفعت أسعار الطاقة، زاد التضخم، واضطر الفيدرالي إلى رفع الفائدة، فتغيرت السياسات النقدية عالمياً.. واليوم، ومع احتمالية استمرار الحرب الإسرائيلية الإيرانية لفترة طويلة، قد ندخل في موجة تضخمية جديدة، ما سيجبر البنوك المركزية - وليس الفيدرالي فقط - على العودة إلى تشديد السياسة النقدية». من هنا، يعتبر معطي أن قرار الفيدرالي بالتثبيت في اجتماعه المقبل هو قرار طبيعي ومنطقي جداً في ظل الظروف الراهنة.