«72 ساعة كانت كفيلة بخسارة أحمد لفرصة حياته».. هكذا بدأت القصة التي كشفت لنا الوجه الآخر لعالم البيانات الخفي.أحمد، شاب عربي طموح، كان على أعتاب الحصول على وظيفة أحلامه في إحدى الشركات التقنية الرائدة. قدّم ملفه، اجتاز المقابلات بنجاح مبهر، وتلقى وعوداً شبه مؤكدة بالانضمام.
لكن، وفي اللحظة الأخيرة، ودون تفسير واضح، تبخر كل شيء. لم يكن الرفض متعلقاً بكفاءته أو مؤهلاته، بل بشيء أكثر خفاءً، شيء جمعه هاتفه، وباعه دون علمه.لم يدرك أحمد وقتها أن كل نقرة على إعلان، كل تصفح لتطبيق مجاني، وكل تأخر في تمرير صورة، كان يُترجم إلى نقطة بيانات دقيقة عنه.
هذه البيانات، التي تشكل «ملفه النفسي» الرقمي، بيعت وتحللت، وربما رسمت عنه صورة لا تمت للواقع بصلة، لكنها كانت كفيلة بحرمانه من مستقبله. قصته لم تكن مجرد حادثة فردية، بل هي نافذة على عالم «اقتصاد الظل»، حيث تصبح أنت، المستخدم، السلعة الأثمن في سوق لا تراه.
وتجاوز حجم إنفاق الإعلانات داخل تطبيقات الهواتف الذكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 7.6 مليارات دولار في عام 2023، وهو رقم يتوقع أن يتجاوز 19 مليار دولار بحلول عام 2030. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة؛ إنها تعكس حجم هذا «المنجم الرقمي» الذي يُستخرج يومياً من جيوبنا وهواتفنا، لتغذية صناعة عملاقة تتحكم في إعلاناتنا، قراراتنا، وحتى تصوراتنا عن العالم.
لم يعد الذهب يُستخرج من باطن الأرض فحسب. الذهب الجديد، الأكثر لمعاناً وقيمة في عصرنا، هو بياناتك. كل تفصيل عن حياتك الرقمية، «من تقابله» و«أين أنت الآن» و«أين تذهب دائماً» وصولاً إلى «ما تشاهد» و«ما تنوي شراءه لاحقاً»، يتحول إلى سلعة مالية تُباع وتُشترى. هذا هو جوهر «اقتصاد الظل»، سوق يتغذى على المعلومات الشخصية، الملفات النفسية، وحتى المعتقدات التي تُبنى حول المستخدم.
تدور هذه المنظومة بأكملها حول معرفات رقمية، مثل «IDFA»، وهو المعرّف المعلن لأجهزة آي أو إس iOS، و«AAID»، وهو معرّف الإعلان لأجهزة أندرويد Android، هذه المعرفات، بالاشتراك مع حزم تطوير البرامج (SDKs) التي تُدس بعناية في التطبيقات المجانية التي نستخدمها يومياً، تُشكل العمود الفقري لعملية جمع البيانات الهائلة، تُجمع معلومات شاملة، بدءاً من عادات التصفح، والاهتمامات، والأماكن التي تزورها، والتطبيقات التي تستخدمها، وحتى أنماط نومك ونشاطك البدني عبر مستشعرات الهاتف.
بعدها تُحول هذه البيانات الخام إلى «سلعة مالية» ذات قيمة هائلة، ثم تُعاد بيعها للمعلنين، لشركات التأمين، للبنوك والمصارف والشركات العقارية والمراكز الطبية، وحتى لصنّاع القرار السياسيين، إنها عملية لا تتوقف، تعمل في الخفاء، وتراكم الثروات لمجموعة قليلة من الكيانات، بينما يظل المستخدم العربي، وغير العربي، هو المتضرر الأكبر.
كيف تُستخرج بياناتك؟
لنفهم كيف تتم هذه العملية، خاضت «البيان» تجربة داخل هذا العالم المعقد، حيث قمنا بتنزيل مجموعة من التطبيقات المجانية الشائعة، سواء كانت عربية أو عالمية، وحاولنا تتبع «رحلة نقرتنا» خطوة بخطوة.
كل نقرة لها ثمن
في اليوم العادي، يبدو الأمر بريئاً. نقرة على إعلان يظهر فجأة، التفكير لدقائق قبل تمرير صورة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى التأخر في التمرير داخل تطبيق أخباري، كل هذه الأفعال، التي تبدو عفوية، تُحوّل إلى بيانات دقيقة عن شخصيتك، إنها ليست مجرد بيانات تُستخدم لتحسين تجربة المستخدم داخل التطبيق، بل هي وقود لصناعة تُباع فيها هذه المعلومات لأطراف ثالثة. أثناء تجربتنا، لاحظنا أن مجرد قضاء وقت أطول على إعلان معين، أو زيارة متجر إلكتروني بعد الضغط على رابط، كان يسجل كنقطة اهتمام، هذه النقطة، وعند تجميعها مع آلاف النقاط الأخرى، ترسم خريطة دقيقة لشخصيتنا الرقمية.
شركات تتغذى على معلوماتك
هنا يظهر دور «الوسيط الذي لا تراه»، شركات متخصصة في تجميع وتحليل البيانات، مثل «Kochava» و«Mobilewalla»، تعمل في صلب هذه الصناعة، مهمتها ليست فقط مراقبة مواقع المستخدمين، بل بيع هذه البيانات، واستهداف فئات حساسة.
تخيل أن بيانات تحركاتك اليومية، زياراتك للعيادات الطبية، أو حتى مشاركتك في تجمعات معينة، تُباع وتُحلل لخدمة أهداف تجارية أو سياسية.
في إحدى حالاتنا، تتبعنا مسار البيانات من تطبيق رياضي مجاني، البيانات المتعلقة بموقعنا الجغرافي وساعات نشاطنا كانت تُرسل بشكل مستمر إلى خوادم وسيطة، هذه الخوادم، بدورها، كانت جزءاً من شبكة أكبر تبيع هذه البيانات لشركات تسويق تستهدف المهتمين باللياقة البدنية والمواقع الرياضية، الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ فباستخدام أدوات تحليل البيانات، وجدنا أن هذه المعلومات قد تُستخدم لاستهداف إعلانات لمكملات غذائية أو حتى برامج تأمين صحي.
إلى أين تذهب البيانات؟
مثل ميناء استراتيجي، تُرسل هذه البيانات غالباً إلى خوادم منتشرة حول العالم، كل منها له غرضه الخاص.
وادي السيليكون بالولايات المتحدة الأمريكية، الوجهة الأبرز للتحليل الإعلاني والاستهداف الدقيق للمستخدمين، هنا تُصقل الخوارزميات وتُبنى الملفات الشخصية للإعلانات الموجهة، وفي أوروبا، تُستخدم للتحليلات التسويقية الواسعة، مع اهتمام متزايد بالامتثال للوائح حماية البيانات مثل «GDPR»، حتى الصين أو روسيا، قد تُرسل بعض البيانات لأغراض توجيه الجمهور أو تسليح القرار السياسي، خاصة في سياق الحملات الانتخابية أو التأثير على الرأي العام. وأظهرت تجربتنا أن البيانات لا تقتصر على منطقة جغرافية واحدة، ففي حين كانت بعض البيانات تُحلل محلياً، كانت أجزاء أخرى تُرسل إلى خوادم في دول مختلفة، مما يجعل تتبع مسارها الكامل تحدياً كبيراً، ويثير تساؤلات حول السيادة على البيانات.
من المشتري؟
المشترون في هذا السوق الخفي متنوعون، وكل منهم يسعى لتحقيق أهدافه الخاصة باستخدام بياناتك.
شركات الإعلان، هم اللاعبون الأساسيون، يبنون استراتيجيات دقيقة لاستهدافك بإعلانات مصممة خصيصاً لاهتماماتك وعاداتك الشرائية، إنهم يريدون أن يبيعوا لك ما «تحتاجه»، حتى لو لم تدرك أنك تحتاجه. وشركات التأمين والمصرفية، لتقدير المخاطر، فمثلاً، قد تُستخدم بيانات نشاطك البدني أو زياراتك لبعض الأماكن لتقييم مدى «خطورتك» كعميل تأمين، أو قد تُحلل عاداتك الشرائية لتقدير مدى ملاءمتك للحصول على قرض.
والجهات السياسية، تُعد بياناتك كنزاً لا يقدر بثمن بالنسبة لهم، يمكن استخدامها لتحديد «الدافع النفسي» للمجتمع، فهم اتجاهات الرأي العام، استهداف الناخبين برسائل مخصصة، أو حتى التأثير على السلوك التصويتي.
وشركات الأمن، تستخدم بياناتك، أحياناً بدون إذن، لأغراض أمنية، في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تم الكشف عن استخدام بيانات تحديد المواقع لأغراض المراقبة، فما بالك بمنطقتنا العربية؟
المستخدم العربي هو «السلعة»
الوضع في المنطقة العربية يزداد تعقيداً، ضعف التشريعات المحلية في بعض الدول العربية يؤثر سلباً على حماية بيانات المستخدمين، فلا توجد قوانين فاعلة ونافذة لحماية بيانات المستخدمين بشكل شامل، مما يترك الباب مفتوحاً أمام الاستغلال غير المقيد، هذا الغياب التشريعي يجعل المستخدم العربي أكثر عرضة للاستغلال مقارنة بنظرائه في مناطق أخرى من العالم.
لكن في المقابل، تشهد دول الخليج تطوراً كبيراً، مما يقدم نماذج يمكن الاحتذاء بها، فالإمارات العربية المتحدة تتحرك بجدية نحو سن قوانين تحمي خصوصية المستخدم، وقد شهدت الفترة الأخيرة اهتماماً متزايداً بهذا الملف، والمملكة العربية السعودية خطت خطوات كبيرة بتطبيق قانون حماية البيانات الشخصية، وأطلقت مشاريع طموحة لحوكمة المعلومات والبيانات، مما يعكس التزاماً بحماية خصوصية مواطنيها والمقيمين بها، هذا التباين في المشهد التشريعي يخلق بيئة غير متكافئة، حيث تتدفق البيانات بحرية أكبر من الدول ذات التشريعات الضعيفة، مما يجعلها «مناجم» أسهل للاستخراج.
رحلة نقرتك
لتوضيح الصورة بشكل بصري، دعنا نتتبع رحلة نقرتك منذ لحظة حدوثها، نقطة البداية هاتفك، حيث تحدث كل التفاعلات واللمسات، يليه تطبيق مجاني (عربي أو عالمي)، هذا التطبيق، الذي نستخدمه دون تفكير، هو البوابة الرئيسية لجمع البيانات، غالباً ما تكون شروط الاستخدام الطويلة والمعقدة هي الفخ الذي يوقعنا فيه دون أن ندري أننا نوافق على بيع معلوماتنا.
حزمة «SDKs» البرمجية تدمجك بالنظام، هذه الحزم الصغيرة هي أدوات المطورين لدمج وظائف معينة في تطبيقاتهم، لكنها أيضاً الوسيلة التي تستخدمها شركات جمع البيانات لزرع «أجهزة التنصت» الرقمية داخل التطبيق، غالباً ما يدرج المطورون هذه الحزم مجاناً أو بمقابل مادي، دون علمهم الكامل بحجم البيانات التي تجمعها، بعدها يأتي دور الخادم ليتحكم ببياناتك، فبمجرد جمع البيانات، تُرسل إلى خوادم سحابية تابعة لشركات جمع البيانات أو شركات الإعلانات، هنا تُخزن البيانات وتُعالج، لتأتي بعدها خطوة تحليل البيانات لتباع للمعلنين أو للحملات، في هذه المرحلة، تُصقل البيانات الخام إلى معلومات قيمة، وتُبنى الملفات الشخصية، وتُحدد الاهتمامات، وتُصنف السلوكيات، ثم تُباع هذه المعلومات لمشتريها، ليُعاد استهدافك بإعلانات موجهة، وربما محتوى مشبوه، النتيجة النهائية هي أنك تتلقى إعلانات تبدو وكأنها تقرأ أفكارك، أو محتوى موجهاً قد يغير قناعاتك أو يؤثر على قراراتك، سواء كنت تدرك ذلك أم لا.
من يحصد الثروات؟
بينما يظل المستخدم العربي هو الخاسر الأكبر، هناك لاعبون رئيسيون يحصدون ثروات هائلة من هذا المنجم الرقمي، أبرزها شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل «ميتا» و«جوجل»، تجني هذه الشركات أكثر من نصف الإنفاق الإعلاني العالمي، إن نماذج أعمالها تعتمد بشكل أساسي على جمع وتحليل بيانات المستخدمين لتقديم إعلانات مستهدفة بدقة، وشركات البيانات الوسيطة، مثل «Kochava, Mobilewalla»، هذه الشركات هي «العمود الفقري» لاقتصاد البيانات، إنها تُنسق بين مطوري التطبيقات من جهة، وبين المعلنين والمشترين الآخرين من جهة أخرى، فعملها الأساسي هو جمع البيانات من مصادر متعددة، تنظيفها، تحليلها، ثم بيعها، ليأتي دور مطوري التطبيقات، الذين يجنون المال من تضمين «SDKs» لشركات البيانات بدلاً من الاعتماد الكلي على بيع التطبيقات أو الإعلانات المباشرة، هذا النموذج الاقتصادي يجعل التطبيقات المجانية ممكنة، ولكنه يأتي بثمن باهظ من خصوصية المستخدم، لتظهر الجهات الخفية، قد تكون هذه الجهات حملات سياسية متخفية تستخدم البيانات للتأثير على الرأي العام، أو شركات أمنية تستغل الثغرات القانونية لجمع المعلومات لأغراض غير معلنة.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي
لا يقتصر تأثير «مناجم البيانات» على جانب الخصوصية فقط، بل يمتد ليشمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية عميقة.
اقتصادياً، التحليل الرقمي أصبح الركيزة الأساسية في التسويق، والتمويل، والتأمين، وحتى الصحة، فالشركات التي تستطيع الوصول إلى البيانات وتحليلها هي الأكثر قدرة على المنافسة واتخاذ قرارات تجارية ذكية، هذا يخلق فجوة كبيرة بين الشركات التي تملك هذه القدرة وتلك التي لا تملكها.
وسلوكياً، يُعاد توجيه قراراتك الشرائية والسياسية بسلاسة قاتلة، فالإعلانات الموجهة لا تقنعك فقط بشراء منتج، بل قد تشكل ذوقك وتفضيلاتك، وفي المجال السياسي، يمكن استخدام هذه البيانات لتشكيل الرأي العام، ونشر معلومات موجهة، أو حتى تضخيم خطاب معين، مما يؤثر على حرية الاختيار الفردي.
واجتماعياً، فالمجتمعات تُشكل من خلال الخوارزميات التي تغذيها بياناتنا، يتم بناء «فقاعات معلوماتية» لكل فرد، مما يحد من تعرضه لوجهات نظر مختلفة، ويمكن أن يؤدي إلى انقسامات مجتمعية، كل ذلك بتأثير محدود من شفافية أو رقابة حقيقية.
حجم المشكلة
الوعي هو الخطوة الأولى نحو الحل، فمعرفة حجم المشكلة وكيفية عملها تمكننا من اتخاذ خطوات لحماية أنفسنا، من خلال تشريعات أممية، نموذج «GDPR» (اللائحة العامة لحماية البيانات) الأوروبي يمثل تجربة متقدمة لحماية البيانات، ويوفر هذا القانون للمستخدمين حقوقاً قوية فيما يتعلق ببياناتهم، ويفرض على الشركات التزامات صارمة. مثل هذه التشريعات ضرورية على مستوى أوسع لضمان حماية عالمية، إلى جانب تقنيات للحماية، فهناك أدوات وتقنيات يمكن أن تساعد في تقليل التتبع، متصفحات مثل «Brave» أو إضافات المتصفح مثل «Privacy Badger» تعمل على حظر أدوات التتبع والإعلانات، فاستخدام شبكات «VPN» (الشبكات الافتراضية الخاصة) يمكن أن يخفي موقعك الفعلي، فضلاً عن حملات إعلامية، لتوعية المستخدم العربي، ويجب أن تكون هناك حملات إعلامية مكثفة لتثقيف الناس حول المخاطر وكيفية حماية بياناتهم، فـ«معرفة سلاح» يُمكّن الفرد من اتخاذ قرارات مستنيرة.
تجربة معايشة داخل عالم البيانات
لم يكن الأمر مجرد نظريات، لقد تواصلت مع شاب جزائري يعمل مطوراً حراً، وشاركت تجربته التي تؤكد هذا الواقع: «عندما زودتْني شركة SDK مجاناً لتطوير تطبيقي، لم أكن أعرف حجم الكارثة، كان العرض مغرياً، أداة مجانية لتسهيل عملي، وفي المقابل، لا شيء مطلوباً مني سوى دمجها، لم أدرك أنها تجمع أكثر من 50 حقلاً من بيانات المستخدمين، بدءاً من أرقام IMEI وMAC العنوان، وصولاً إلى قائمة التطبيقات المثبتة وموقع الجهاز الدقيق!.. استمر الأمر هكذا لشهور، حتى قررت، بدافع الفضول، تجربة أداة منع التتبع على هاتفي.
كانت الصدمة! بمجرد تفعيلها، توقف تحليل البيانات تماماً من التطبيق الذي طورته. شعرت وقتها أنني كنت أشارك، دون قصد أو معرفة كاملة، في منظومة مراقبة ضخمة، تُحول مستخدمي تطبيقي إلى مجرد أرقام تُباع وتشترى. لقد كان إحساساً بالذنب والخيانة للمستخدم، حتى لو كان ذلك بدون نية مسبقة مني».
هذه التجربة الشخصية تكشف أننا غالباً جزءٌ من تجربة ضخمة تحدث بدون علمنا أو موافقتنا الصريحة، نحن، كمستخدمين، نعيد إنتاج بياناتنا كل ثانية، وكل نقرة تزيد من حجم «منجم البيانات» الذي يستغله الآخرون.
الخبراء
أكد الدكتور أحمد البلوشي، خبير البيانات في الإمارات، أن الإمارات بدأت بخطوات جدية نحو تنظيم البيانات وحماية الخصوصية، فإن ثمة ضرورة ملحة لتعزيز الوعي القانوني والتقني لدى الأفراد والمؤسسات.
وقال البلوشي: «إن حماية الخصوصية ليست ترفاً أو خياراً ثانوياً في عصرنا الرقمي، بل هي حجر أساس لتقنية عادلة ومجتمع رقمي آمن، ويجب أن نفكر في الخصوصية كحق أساسي، وليس مجرد ميزة إضافية».
ويرى السيد مصطفى، الخبير الرقمي ومدير شركة تكنولوجيا بيانات في المملكة العربية السعودية: «بنية البيانات العملاقة التي تتشكل يوماً بعد يوم تتطلب منظومة حوكمة قوية وشفافة، ودون هذه المنظومة، سيظل المستخدم طرفاً ثالثاً ضعيفاً في معادلة استثمارات ضخمة، حيث تُبنى الثروات على حساب حقوقه الأساسية. الالتزام بالشفافية ومنح المستخدم التحكم في بياناته ليس فقط واجباً أخلاقياً، بل هو ضرورة اقتصادية لبناء ثقة رقمية مستدامة».
وتقول الدكتورة سعاد الجوادي، باحثة مصرية في مجال الأمن السيبراني والتحول الرقمي: «هدفنا كدول عربية هو جمع البيانات لتطوير البنى الرقمية وتحسين الخدمات، لكن هذا الهدف لن يتحقق أبداً إذا لم نضمن أمان هذه البيانات وخصوصيتها، وإن لم نقم بحماية المعلومات الشخصية لمواطنينا ومستخدمينا، فإننا سنبني مجتمعاً رقمياً هشاً يعتمد على الشاشات بلا أمان أو ثقة، مما يعرضه لمخاطر جمة على المستويات الفردية والمجتمعية على حد سواء».
الحماية الإماراتية
ويشكل القانون الاتحادي بدولة الإمارات لحماية البيانات الشخصية، (المرسوم بقانون اتحادي رقم (45) لسنة 2021 بشأن حماية البيانات الشخصية - (PDF, 350KB) إطاراً متكاملاً لضمان سرية المعلومات، وحماية خصوصية أفراد المجتمع عبر توفير الحوكمة السليمة لإدارة البيانات وحمايتها. يحدد القانون الأطر العامة للتعامل مع البيانات الشخصية للأفراد، وكيفية جمعها ومعالجتها وتخزينها، ووسائل ضمان حمايتها، وحقوق وواجبات كافة الأطراف المعنية.
وتضمنت بعض أحكام القانون، أنه يسري القانون على معالجة البيانات الشخصية، سواء كلها أو جزء منها، عن طريق وسائل الأنظمة الإلكترونية وذلك داخل أو خارج الدولة، كما يحظر القانون معالجة البيانات الشخصية دون موافقة صاحبها، وذلك باستثناء بعض الحالات التي من ضمنها أن تكون المعالجة ضرورية لحماية المصلحة العامة، أو لإقامة أي من إجراءات المطالبة بالحقوق والدعاوى القانونية.
وحدد القانون ضوابط معالجة البيانات الشخصية والالتزامات العامة للشركات التي تتوفر لديها بيانات شخصية عن الأفراد وتلك العاملة في مجال معالجة البيانات الشخصية في تأمين البيانات والحفاظ على سريتها وخصوصيتها، والإجراءات والتدابير المتوفرة لديها لضمان عدم اختراقها أو إتلافها أو تغييرها أو العبث بها، إلى جانب ضوابط نقل ومشاركة البيانات الشخصية عبر الحدود لأغراض المعالجة، فضلاً عن إجراءات الإبلاغ عن انتهاك البيانات الشخصية، كما منح القانون لصاحب البيانات الشخصية عدة حقوق تشمل: «الحصول، دون أي مقابل، على المعلومات والقرارات التي تتخذ بناء على معالجة بياناته الشخصية، والحق في طلب تصحيح بياناته الشخصية الخاطئة أو القديمة، وحق النسيان الذي يوفر للفرد الحق بأن يطلب من أي شركة يطبق عليها القانون بأن تحذف بياناته بشكل كلي، وحق الإعلام الذي يوفر للمستهلك الحق بأن يتم إعلامه في حال تم اختراق نظام شركة مطبق عليها القانون، حيث يتم إعلامه أن بياناته قد انتهكت».
الوعي القانوني
يقول أشرف دريد، الرئيس التنفيذي في شركة «إكس تي بي»، «إن المبادرات التشريعية في الإمارات، مثل قانون حماية البيانات الشخصية، تعتبر خطوة تأسيسية ضرورية.. كما يجب أن يتجاوز الوعي مجرد التحذيرات العامة من المخاطر السيبرانية، حيث يفهم الأفراد حقوقهم في الوصول لبياناتهم وتصحيحها وحذفها، وتدرك المؤسسات أن الامتثال ليس مجرد التزام قانوني لتجنب الغرامات، بل هو استثمار مباشر في سمعتها».
ويضيف أن حماية الخصوصية ليست عائقاً أمام الابتكار، بل هي شرط أساسي لتقنية عادلة ومجتمع رقمي آمن، فالتجارة في البيانات، دون ضوابط أخلاقية صارمة ومبادئ مثل «الخصوصية حسب التصميم» يمكن أن تؤدي إلى ترسيخ التحيزات المجتمعية عبر الخوارزميات، وتآكل الاستقلالية الفردية. ويؤكد أن الثقة الرقمية هي الأصل الأثمن في الاقتصاد الجديد.
وتابع الرئيس التنفيذي في شركة «إكس تي بي»: «لتحقيق هدفها التنموي، تحتاج الدول العربية إلى استراتيجية متكاملة تجمع بين تبني نماذج حوكمة مرنة ومستوحاة من تجارب ناجحة والاستثمار في التقنيات المتقدمة المعززة للخصوصية مثل التعلم الفيدرالي (Federated Learning) وإخفاء الهوية وأخيراً، دمج ثقافة المواطنة الرقمية في المناهج التعليمية لجيل يدرك حقوقه وواجباته في العالم الرقمي».
مكانة دبي
وأفاد حيدر نظام، رئيس «زوهو» في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب الرئيس لقسم الحلول في الشركة، بأن دبي برزت كلاعب بارز في المشهد العالمي لتنظيم البيانات وحماية الخصوصية وقد أسهمت مبادراتها الاستراتيجية إضافة إلى بيئتها المواتية للأعمال التجارية في تكريس مكانة المدينة كمركز للابتكار التكنولوجي وحماية البيانات، ولم يأتِ ذلك من قبيل المصادفة، فقد كانت حكومة دبي القوة الدافعة وراء هذا التحول. ويضيف: «وضعت دبي سياسات ولوائح من شأنها أن تخلق أرضية خصبة لعمليات البحث والتطوير في مجال حماية البيانات، وتمتد هذه المبادرات الحكومية إلى ما هو أبعد من مجرد الأطر، كما استثمرت دبي بكثافة في إنشاء بنية تحتية رقمية، إضافة إلى مراكز بحثية وجامعات عالمية المستوى تركز على الذكاء الاصطناعي».
حماية قانونية
قال المستشار القانوني، حسام لطفي: «إن استغلال بيانات الأفراد من أخطر تحديات العصر الرقمي، إذ تحوّل المستخدم من مستصهلك إلى منتج، تتاجر الشركات بمعلوماته، دون علمه أو موافقته، وهذا الخلل بين حقوق الأفراد والمصالح التجارية، يستدعي تشريعات صارمة ورقابة حقيقية، إلى جانب رفع مستوى وعي المستخدمين بحقوقهم الرقمية».
وأضاف: «عالمياً، وضعت أوروبا عبر لائحة حماية البيانات (GDPR)، واحدة من أشد الأطر القانونية، حيث تصل الغرامات إلى 20 مليون يورو، أو 4 % من إيرادات الشركة العالمية، وقد يواجه المسؤولون في بعض الحالات عقوبات جنائية، تشمل السجن عند التسريب أو البيع المتعمد للبيانات. وفي الولايات المتحدة، يمنح قانون حماية خصوصية المستهلك في كاليفورنيا (CCPA)، الأفراد حق معرفة البيانات التي تُجمع عنهم، ورفض بيعها، مع فرض غرامات تصل إلى 7.500 دولار لكل مخالفة».
وتابع: «عربياً، حققت الإمارات قفزة نوعية بإصدار المرسوم بقانون اتحادي رقم 45 لسنة 2021، بشأن حماية البيانات الشخصية، الذي يفرض التزامات صارمة على الشركات، ويتيح للمستخدم حقوقاً، مثل التصحيح والحذف، مع عقوبات مالية وإدارية تصل إلى وقف التراخيص. كما أقرّت السعودية نظاماً متقدماً لحماية البيانات، يتضمن غرامات تصل إلى 5 ملايين ريال، إضافة إلى عقوبات جنائية بالسجن لمدة تصل إلى سنتين، في حال بيع البيانات أو إفشائها دون إذن».
ولفت إلى أن هذه القوانين تؤكد أن حماية الخصوصية لم تعد ترفاً أو خياراً، بل هي ضرورة لحماية الأمن الفردي والمجتمعي، ولبناء ثقة رقمية مستدامة، تدعم الاقتصاد وتحمي سيادة الدول».
قصة قابلة للتحقيق
بالعودة إلى قصة أحمد في المقدمة، نجد أن ما حدث له ليس مجرد خيال، بل هو واقع مرير يعيشه الكثيرون. عندما خسر أحمد عروضاً وظيفية تبدو واعدة، بدأ يشك في وجود خطأ ما. لم يكن يعرف أن السبب قد يكون تحليلاً خاطئاً لملفه السلوكي الرقمي.
أثناء بحثه المستمر، اكتشف أحمد أن هناك نموذجاً محللاً لبروفايلاته السلوكية، قام بتجميعه «SDK» داخل التطبيقات المجانية التي كان يستخدمها بشكل يومي، هذه البيانات، التي تضمنت اهتماماته، عاداته الشرائية، وحتى أنماط تواصله، تم بيعها إلى جهة تسويقية.
الغريب أن هذه الجهة لم تستخدم البيانات لأغراض إعلانية بحتة، بل لـ«تحليل سوق العمل» بشكل غير مباشر، وربما لتصنيف المتقدمين للوظائف بناءً على عوامل لا تمت لكفاءتهم بصلة.
النتيجة كانت أن أحمد، الذي كان يمتلك كل المؤهلات المطلوبة، رُفض من عدة وظائف، ولم يكن يعرف السبب الحقيقي، ولم يكن لديه أي وسيلة لتتبع من المسؤول أو تحدي القرار.
هذه القصة تسلط الضوء على مدى تعقيد المشكلة: عندما تُستخدم بياناتك لقرارات تؤثر على حياتك، دون علمك أو موافقتك، يصبح من الصعب جداً تتبع المسار أو طلب العدالة.
عملاء المصارف
عالمياً، اقترح بنك «جيه بي مورغان» فرض رسوم على شركات التكنولوجيا مقابل السماح لها بالوصول إلى حسابات عملائه المصرفية، وفق «بلومبرغ».
ومع ذلك فإن فرض رسوم جديدة على الوصول إلى البيانات يمثل تحولاً فارقاً في وقت يهدد فيه الذكاء الاصطناعي بتقويض أنماط الخدمات الرقمية بمختلف أشكالها، بما فيها خدمات التمويل، فالذكاء الاصطناعي يعد بإطلاق العنان لسيل من أدوات التخطيط المالي الذكي وتقديم المشورة الآلية، لكن هذه الأدوات لن تكون ذات جدوى ما لم تتمكن من الوصول الكامل إلى البيانات المالية للمستخدمين، وهو ما يضع مؤسسات مثل «جيه بي مورغان» في موقع من يتصرف كـ«حارس بوابة»، يتحكم فيما يمكن وما لا يمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي الوصول إليه.
ومن الواضح أن البرمجيات تقف في الخطوط الأمامية لهذه المعركة، فها هي «سيلز فورس» تسببت في صدمة عمت أرجاء الصناعة مؤخراً، حينما حظرت على شركات البرمجيات الأخرى فهرسة أو نسخ البيانات من منصة «سلاك»، وهو تطبيق الدردشة الخاص بها المخصص للموظفين في المكاتب.
وتحتوي المحادثات على منصة «سلاك» على ما يرقى إلى أن تكون «جبالاً من البيانات» عما يجري داخل الشركات، وهي جبال بإمكان الشركات الأخرى العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي الاستفادة منها في التنقيب عن البيانات.
وتعد الاستراتيجية الدفاعية، التي أعلنتها «سيلز فورس»، واحدة من بين تلك التي تتناهي كثيراً إلى مسامعنا من شركات تكبح الوصول إلى أنظمتها، فما أعلنته ليس إلا «تعزيزاً لوسائل الحماية» التي تحمي بها عملاءها، لكن ثمة ما يبرر درجة أكبر من الحذر هنا، في وقت تتطلع فيه بعض شركات الذكاء الاصطناعي إلى تعدين كميات هائلة من البيانات لتدريب أحدث نماذجها، لكن حظر وصول تطبيقات الأطراف الثلاثة إلى البيانات، التي حصلت بالفعل على إذن صريح من العميل يبدو حاجزاً تنافسياً واضحاً، كما أنه أيضاً تقييد مصمم لربط العملاء بخدمات شركة مفردة.
وعوضاً عن ذلك سيصبح المساعدون الإلكترونيون، الذين يشغلهم الذكاء الاصطناعي التوليدي والوكلاء «واجهة أمامية» أكثر أهمية للبرمجيات.
ويشكل هذا تهديداً واضحاً للشركات التي تعمل وكأنها «أنظمة إدارة سجلات»، أي التي تحتفظ بالبيانات المهمة نيابة عن العملاء، فليس هناك شركة من بين هذه الشركات ترغب في تراجع مكانتها لكي تصبح أداة خلفية.
وفي جانب آخر من عالم البرمجيات، رفعت شركة سيلونيس الألمانية الناشئة دعوى قضائية ضد «إس إيه بي» في وقت مبكر من العام الجاري، بعدما أعلنت الأولى مواجهتها حظراً لاستخراج بيانات العملاء، التي تحتفظ بها شركة البرمجيات الأكبر حجماً.
ومن المرجح أن تحتدم العوامل التي أسفرت عن مثل هذه المنازعات، إذا أصبح استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي أكثر شيوعاً. ويحلم العديد من الشركات، ليس فقط في عالم التكنولوجيا، بتزويد عملائها بوكلاء بإمكانهم الاستفادة من الخدمات التي تقدمها، والبيانات بهدف أتمتة العمليات.
نقرتك ليست مجانية.. بل مصيرية
الذهب الجديد لم يعد تحت الأرض، بل يتدفق من أطراف أصابعك مع كل نقرة على شاشة هاتفك. كل تفاعل، كل تصفح، كل إشارة منك، تُحول إلى معرفة تُباع، وتُحسب بمال، وتُراكم ثروات هائلة لآخرين.
لقد كشفت هذه الرحلة في «مناجم البيانات» عن عالم خفي، يعمل بصمت، لكنه يؤثر على كل جانب من جوانب حياتنا، من الخيارات الشرائية البسيطة وصولاً إلى فرص العمل وحتى المشهد السياسي، الرهان الأكبر في هذه اللعبة هو أنت، المستخدم، وخصوصيتك.
كلما زاد وعيك بهذه الآلية، وبطرق جمع واستغلال بياناتك، قلت قدرتهم على التلاعب بك، وقلت قدرتهم على تحويلك إلى سلعة رخيصة في سوق الظل، فكر قبل أن تبيع نفسك بلا مقابل.
حان الوقت لندرك أن نقرتنا ليست مجرد حركة بسيطة على الشاشة، إنها بصمة رقمية، قطعة من هويتنا، ومفتاح لمستقبلنا.. حمايتها ليست رفاهية، بل ضرورة قصوى.
