يعاني لبنان منذ سنوات من أزمات اقتصادية وسياسية مدمرة، إلى جانب الفساد؛ بالإضافة إلى اقتصاده الضعيف الذي لم يتعافَ منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 - 2009، وجاءت جائحة كوفيد - 19 لتزيد من معاناة الاقتصاد اللبناني الذي ما زال يعاني من انهيار النظام المالي في 2019 وتخلفه عن سداد ديونه الضخمة في 2020، لتأتي الحرب الإسرائيلية لتأكل ما تبقى من الاقتصاد المنهار.

وعلى وقع الغارات الجويّة المستمرة على الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت، وتفاعلاً مع التحوّلات الجذريّة الأخيرة، أطلق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومنسق الشؤون الإنسانية في لبنان عمران ريزا نداءً إنسانياً عاجلاً لجمع ما قيمته 426 مليون دولار، لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للمدنيين في البلاد. وذلك بعد توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان الأسبوع الفائت، والذي أودى بحياة ما لا يقلّ عن ألف مواطن وأسفر عن نزوح أكثر من مليون شخص.

ومن بوّابة هذا النداء الإنساني، معطوفاً على قول وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، إن «استمرار الحرب يدفع لبنان نحو المجهول»، مع إشارته إلى أن الحالة الاقتصادية للبنان في «وضع صعب ودقيق جداً»، تجدر الإشارة إلى أن لبنان الرسمي يقوم بتنفيذ خطة طوارئ حالياً، لمحاولة إنقاذ الوضع الاقتصادي في البلاد، إلا أن استمرار التصعيد، وبحسب تأكيد خبراء اقتصاديين لـ«البيان»، سيأخذ البلاد نحو وضع صعب ومجهول، حتى مع استمرار المساعدات والدعم الدولي.

وفي اعتقاد الخبراء أنفسهم، أن الصراع المتصاعد بين إسرائيل و«حزب الله» قد يؤدّي إلى انكماش اقتصادي، يتراوح بين 10 و25% في لبنان هذا العام، وإلى تباطؤ اقتصادي كبير في أوائل العام المقبل، مع تدمير قطاعات حيوية، من الزراعة إلى السياحة وتضرّر البنية التحتيّة الحيويّة، وذلك تحت وطأة أزمات عدّة ناجمة عن سنوات من الجمود السياسي، أغرقت لبنان بأزمة اقتصادية خانقة منذ العام 2019، بعد أن فقدت الليرة أكثر من 95% من قدراتها وارتفعت معدلات التضخّم، كما بفعل مرور نحو عام من القتال بين إسرائيل و«حزب الله»، الأمر الذي جعل لبنان يرزح تحت خسائر اقتصادية ضخمة، هذا عدا عن الخسائر البشرية التي خلّفتها الحرب.

ووسط التحذيرات المتتالية من أن الأوضاع في لبنان قد لا تبدأ بالاستقرار إلا في النصف الثاني من العام المقبل، وأن النموّ الإجمالي قد يستعيد عافيته في عامي 2026 و2027، تجدر الإشارة إلى عدم وجود مسح جغرافي واضح للأضرار، إلا أن لبنان، ووفق ما يتردّد، بحاجة في الحدّ الأدنى إلى 15 مليار دولار، وهي تكلفة الخسائر الاقتصادية، المباشرة وغير المباشرة، لإعادة إعمار ما تهدّم.

كما تجدر الإشارة إلى تراجع الاحتياطات في المصرف المركزي بشكل ملحوظ، حيث تجاوزت خسائر القطاع المصرفي حوالي 70 مليار دولار، وانخفض الناتج المحلي بنسبة 70%، لنجد أن أكثر من 80% من سكان لبنان باتوا تحت خط الفقر، وفق الإحصاءات الأخيرة. وعليه، فإن ثمّة إجماعاً على أن تكلفة الحرب التي شنّتها إسرائيل على الاقتصاد اللبناني باهظة جداً، وطالما الحرب مستمرّة فإن الخسائر سترتفع. وعليه، شدّدت مصادر معنية على ضرورة أن تُفعّل الحكومة اللبنانية دبلوماسيتها مع العالم، لمنع اندلاع الحرب الشاملة، لأنّ لبنان لا يستطيع أن يتحمّل اقتصادياً تداعيات هذه الحرب، ولا سيّما أن أرقام خسائرها ستكون خيالية.

3 سيناريوهات

وما بين مضامين واقع الحرب القائمة وضررها الواسع على الاقتصاد، تجدر الإشارة إلى أن وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيفات الائتمانية كانت قد وضعت 3 سيناريوهات بشأن اقتصاد لبنان خلال الحرب الحالية، وكانت كالتالي:

- السيناريو الأول، تمّ تخطّيه، حيث كان عبارة عن مواجهة على صعيد 3 أشهر، بما يسفر عن خسائر محدودة إلى حدّ ما، وخاصة في القطاع السياحي وعلى صعيد الاحتياطي الأجنبي والناتج المحلي الإجمالي. علماً أن الخسائر على القطاع السياحي وصلت إلى 500 مليون دولار، بينما الخسائر في الاحتياطي الأجنبي كانت حوالي 2%، ونسبة الخسائر من الناتج المحلي 3%.

- السيناريو الثاني: وهو يعبّر عن الواقع في الوقت الحالي، حيث هناك خسائر في الإيرادات السياحية بقيمة 1.6 مليار دولار، بينما وصلت نسبة خسائر الاحتياطي الأجنبي إلى 6%، وخسائر الناتج المحلي الإجمالي وصلت إلى 7%.

- السيناريو الثالث: سيدخل لبنان في هذه المرحلة إلى أمد أطول للصراع واتساع نطاقه دون أن تكون حرب شاملة، لتحدث خسائر أكبر تصل إلى 3.7 مليارات دولار في القطاع السياحي، ونسبة خسارة الاحتياطي الأجنبي 14%، بينما خسارة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 23%.

سيناريو رابع

من جهته، قال الخبير الاقتصادي جاد شعبان هناك سيناريو رابع للحرب الشاملة وتأثيرها على الاقتصاد اللبناني، إذْ توقع عبر «البيان» أن يكون ضرر الحرب أكبر بكثير، لأن ما قامت به إسرائيل على صعيد غزّة يمكن أن يتكرر في لبنان، من ناحية تدمير البنية التحتية والمنازل وغيرها من المنشآت الاقتصادية، ما سيؤدّي إلى ضرر كبير، قد تتخطّى نسبته عشرات مليارات الدولارات، من الخسائر المباشرة وغير المباشرة. فعلى الصعيد الاجتماعي، ستؤدي الحرب الشاملة إلى تجويع الشعب اللبناني، وخاصة المواد الغذائية وأيضاً الصحية.

وإذا أقدمت إسرائيل على غلق البحر والمطار وغيرها من الحدود اللبنانية مع العالم، سيكون هناك نقص في تلك المواد، ما يدفع لبنان للاعتماد على مساعدات المجتمع الدولي لتوفيرها. كما أن ثمّة توقعاً مرتبطاً بنقص المحروقات، حال امتداد الحرب لتشمل فترة الشتاء، ليكون ضررها أكبر، وخاصة أن طقس لبنان بالشتاء يحتاج إلى محروقات أكبر، إضافة إلى احتياجها للاستخدام في وسائل التنقل.

وتسببت الضغوط التضخمية العالمية وارتفاع تكاليف المعيشة في تفاقم معاناة اللبنانيين العاديين في توفير احتياجاتهم الأساسية، حيث فقد لبنان رأس المال بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ولا يرغب سوى عدد قليل من المستثمرين الأجانب في المجازفة بأموالهم هناك، بالإضافة إلى انخفاض دخل الفرد بشكل كبير، حيث يصل حالياً إلى حوالي 3300 دولار، بعد أن كان 9000 دولار في 2018. ويشهد الاقتصاد اللبناني تراجعاً منذ أزمة 2019، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي من 59 مليار دولار في 2018 إلى 22 مليار دولار حالياً، ومع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 95% وارتفاع معدلات التضخم إلى 200%.

كما انهارت خدمات التخلص من النفايات وإمدادات الكهرباء، حيث تكافح شركة الكهرباء الوطنية لتوفير ساعتين فقط من الكهرباء يومياً؛ كما أنَّ احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة بشكل استثنائي، فيما يسجل لبنان عجزاً تجارياً يبلغ حوالي 9 مليارات دولار سنوياً، ما يزيد من صعوبة وصول اللبنانيين إلى السلع والخدمات التي يحتاجونها للبقاء.

والآن، فإن الصراع بين إسرائيل وحزب الله يعني أن ملايين المواطنين اللبنانيين يواجهون تهديدات خطيرة لحياتهم ومعيشتهم، دون أن تتمكن الحكومة من مساعدتهم.

فقد هُجّر ما يصل إلى مليون مدني في لبنان، وتم تدمير الكثير من البنية التحتية والممتلكات في جميع أنحاء البلاد، قبل أن يبدأ الاجتياح البري. ويمكن للصراع الحالي أن يزعزع استقرار لبنان إلى درجة أن هناك إمكانية لاندلاع حرب أهلية ثانية، وهذا لا يخدم مصالح أحد؛ فلبنان غير مستقر، ولن يؤدي إلا إلى نتائج سلبية على الجميع في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل.

وإذا ما استمر منطق «الأقوياء يفعلون ما يريدون والضعفاء يعانون مما يجب»، فلن يكون هناك سوى انهيار وخراب في لبنان والشرق الأوسط وما بعده، لذلك من الضروري أن تسود الحكمة والعقل وأن يتم تهدئة الصراع بين إسرائيل و«حماس» و«حزب الله».

وبلغ عدد الأفران والمخابز التي أقفلت في لبنان بسبب الأوضاع الحالية نحو 50 فرناً في مناطق مختلفة من الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، وفق ما ذكره نقابي لبناني. وقال نقيب عمال الأفران شحادة المصري: «الإقفال في الأفران لم يكن شاملاً كل المناطق التي تتعرّض للعدوان»، مشيراً إلى أن «بعض الأفران في الضاحية الجنوبية لبيروت، مثل فرن الوفاء وفرن الكفاءات، استمرت في العمل رغم المخاطر، بينما يتعرض الضغط الأكبر حالياً على الأفران في جبل لبنان والشمال».

السياحة

قال وسام فتوح، الأمين العام لاتحاد المصارف العربية لبلومبرغ، إن الحرب على لبنان تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد لإمكانية فقدان إيرادات السياحة التي تصل سنوياً إلى 5 مليارات دولار. وتبددت آمال لبنان في تنشيط الاقتصاد المحتضر بإيرادات السياحة بعد الضربة الجوية الإسرائيلية على العاصمة بيروت، وتهديدات الحرب الشاملة التي تسببت في سلسلة من قرارات حظر السفر ودفعت الزائرين الذين يمضون عطلاتهم إلى مغادرة البلاد.

واختتم فتوح بأن «لبنان يجذب سنوياً عملة صعبة بنحو 12 مليار دولار مقسمة بين 7 مليارات دولار تحويلات من المغتربين خارج البلاد، و5 مليارات من السياحة، ولكن هذه الأموال لا يدخل البنوك منها إلا فقط ما يتراوح من 2 إلى 4 مليارات».