في اكتشاف علمي يسلّط الضوء على أعماق كوكبنا المجهولة، كشف فريق من علماء الجيوكيمياء عن أدلة مدهشة تُظهر أن آثار الذهب والمعادن النادرة قد تتسرب من نواة الأرض المنصهرة إلى السطح عبر أعمدة الوشاح العميقة، أو ما يُعرف بـ«أعمدة النار». هذا الاكتشاف، الذي نُشر في مجلة "Nature" ، يفتح نافذة جديدة لفهم العلاقة الخفية بين قلب الأرض والبراكين النشطة، ويعيد رسم الصورة التقليدية لتوزيع المعادن في باطن الكوكب.
الذهب والنواة: بصمة كيميائية خفية
ركز الباحثون على بازلْت الجزر المحيطية (OIBs)، وهو نوع من الصخور البركانية يتكون في أعمدة الوشاح العميقة. تمت دراسة عينات من براكين هاواي مثل كيلاويا ولويهي، والتي تقع مباشرة فوق أعمدة الوشاح الممتدة حتى نواة الأرض على عمق 3000 كيلومتر.
باستخدام مطياف كتلة عالي الدقة، قام الفريق بقياس شذوذات نظائرية في عناصر مثل الروثينيوم (Ru) والتنغستن (W). وأثبتت النتائج أن نسب الروثينيوم في الحمم البركانية أعلى بكثير مما هو متوقع من المصادر المعروفة، مما يشير إلى أن مواد من نواة الأرض تتسرب نحو السطح عبر هذه الأعمدة.
قال الباحث الرئيسي نيلز ميسلينغ: "لاحظنا فائضاً واضحاً في نظائر الروثينيوم المرتبطة بتكوين نواة الأرض المبكر، وأقل من 0.3% من هذه المكونات يكفي لتفسير هذه الأنماط غير المألوفة".
الذهب المدفون: حقيقة علمية أم خيال إعلامي؟
تداولت وسائل الإعلام أرقامًا مذهلة تفيد بأن لب الأرض قد يحتوي على 30 مليار طن من الذهب بقيمة تقارب 2.77 تريليون يورو. ومع ذلك، شدد العلماء على أن هذه الكمية غير قابلة للاستخراج عمليًا، وأن الاكتشاف يقتصر على آثار مجهرية للذهب والمعادن النادرة تظهر في الحمم البركانية.
وأوضح ماتياس ويلبولد، الباحث المشارك: "ما نراه مجرد آثار دقيقة جدًا من الذهب، وليس كتل يمكن تعدينها. الوصول المباشر إلى النواة مستحيل بالتقنيات الحالية، فهي محاطة بآلاف الكيلومترات من الصخور المنصهرة".
البراكين كنافذة طبيعية
بدلاً من الحفر العميق المستحيل، ينظر الباحثون إلى البراكين النشطة مثل هاواي وجزر غالاباغوس كمراصد طبيعية للأرض الداخلية. فالحُمم البركانية تحمل معها بصمات المعادن النادرة من أعماق كوكبنا، ما يسمح للعلماء بدراسة ديناميكية اللب والوشاح على مدى ملايين السنين.
من خلال تتبع الشذوذات النظيرية، يمكن رسم خريطة دقيقة لكيفية تحرك المواد القادمة من النواة إلى السطح، وكيفية اختلاطها بالوشاح، مما يتيح فهمًا أعمق لتاريخ الأرض وتطورها الكيميائي.
الآفاق العلمية للكواكب الأخرى
يشير هذا الاكتشاف إلى أن ما يحدث في لب الأرض قد يكون نموذجًا مشابهًا للكواكب الصخرية الأخرى، مثل المريخ أو الزهرة. ويقول ميسلينغ: "إذا كانت نواة الأرض تسرب المعادن عبر أعمدة الوشاح، فمن الممكن أن تكون هناك عمليات مماثلة على كواكب أخرى، وقد تساعدنا هذه الفكرة على تفسير خصائص سطحها الكيميائية والجيولوجية".
الذهب المدفون تحت أقدامنا: أكثر من مجرد معدن
رغم أن الذهب الموجود في نواة الأرض بعيد المنال، إلا أن هذه الدراسة تقدم نافذة نادرة على أعماق كوكبنا. فهي تثبت أن نواة الأرض ليست معزولة تمامًا، وأنها تسهم بعناصر أثرية في الوشاح والقشرة. كما تدعم مفهوم حلقة التغذية الراجعة الجيوكيميائية التي تعيد تدوير مواد اللب إلى السطح عبر النشاط البركاني.
من خلال هذه البراكين، يمكن للعلماء رصد تحركات المعادن الثمينة، وفهم تاريخ الأرض بشكل لم نتمكن من الوصول إليه من قبل، مما يجعل الاكتشاف علميًا بحتًا ومثيرًا في الوقت نفسه، بعيدًا عن فكرة التعدين الفعلي للذهب في قلب الكوكب.
