تعد صناعة الدواء العربي صناعة يتيمة حيث تفتقر إلى الرعاية والطموح، فبينما تحرص معظم دول المنطقة على تأسيس ورعاية شركات طيران أو اتصالات عالمية نجدها لا تحرص بالقدر نفسه على رعاية شركة أدوية واحدة للوصول لنفس المستوى العالمي برغم وجود أكثر من مئة شركة دواء عربية على الساحة. وغياب تلك الرعاية أدى وبشكل مباشر إلى غياب المناخ والبيئة المناسبين لنمو تلك الصناعة عالميا. بل ان غيابها ادى أيضا إلى نمو مسببات أخرى لتأخر صناعة الدواء المحلي عن الركب العالمي.
إن الشركات العربية المرخصة تنتج أدوية مطابقة للمعايير والمواصفات القياسية للجودة وبها كفاءات بشرية جيدة المستوى ولكن يبقى عدد قليل جداً لا يتعدى أصابع اليد من تلك الشركات هو المرخص له بالتصدير والتسويق في أوروبا وأميركا واليابان (وهي تشكل ما يقرب من 80% من السوق العالمي).
ولا يرجع ذلك للجودة كما سبق ولكن هناك إجراءات ومتطلبات تسجيل وترخيص في تلك الأسواق لم تطرقها أو تحصل عليها أغلب الشركات المحلية، وبالتالي لم تتمكن بعد من التصدير أو التسويق هناك. أضف إلى ذلك ندرة الكفاءات المحلية ذات الخبرة العالمية بمجال التسويق والمبيعات والتوزيع في تلك الأسواق مما جعل هذه الأسواق تبدو مبهمة وغريبة عن الشركات المحلية.
وعندما حاول بعض منها انتهت تلك المحاولات وباستثناءات محدودة جداً إما في منتصف الطريق أو باءت بالتراجع لأسباب عديدة مثل اختلاف الثقافة المؤسسية وعدم التواصل وعدم تناغم «الفروع» العالمية مع الإدارة المحلية. ويتميز قطاع الدواء عموماً وصناعة الدواء خاصة باستقرارها وعدم تأثرها المباشر بعوامل اقتصادية قد تؤثر سلبا على قطاعات أخرى .
فمثلا بينما ظهرت واختفت فقاعات اقتصادية عديدة على مدار الخمسين عاماً الماضية ظلت صناعة الدواء تحقق معدلات نمو متزايدة ومستقرة الربحية بالمقارنة بقطاعات أخرى متذبذبة كالقطاع السياحي والتطوير العقاري أو تقنية المعلومات .
وللمفارقة لم تستطيع صناعة الدواء المحلية جذب هذه النوعية من الاستثمارات من خلال خطط وسياسات جاذبة لدفع توسعها عالمياً بل ان الصناعة لم تغتنم النمو الاقتصادي لاحتواء السيولة المتوفرة واقتصر الاستثمار في قطاع الدواء على استثمارات محدودة في قطاع الخدمات والتوزيع المحلي مثل الصيدليات والتوكيلات.
كذلك يسود افتراض أن صناعة الدواء المحلي إما أن تكتشف دواء جديداً وتسوقه عالمياً أو أنها ستتقوقع محلياً أوإقليمياً على الأكثر بسبب اعتمادها على الأدوية المثيلة (الدواء المثيل: وهي الأدوية التي تحتوي نفس المادة الفعالة كالأدوية الأصلية وهي قانونية وصالحة تماما طالما تصنع طبقاً للمواصفات وفي إطار قوانين حماية الملكية الفكرية).
وهذا للأسف اعتقاد خاطئ. فبنظرة سريعة على نموذج عمل الشركات العالمية القائمة على البحث واكتشاف أدوية جديدة. نجد أن الدواء الجديد يستغرق اكتشافه ما يقرب من 10 سنوات وبتكلفة 800 مليون دولار تقريبا من خلال شراكات متعددة مع مراكز بحوث أكاديمية وتطبيقية متخصصة ثم تسوقه تلك الشركات طوال فترة حماية الملكية الفكرية وهي 20 سنة تقريبا.
إذن ذلك النموذج معقد اقتصاديا وعلمياً ولا تتوفر له عملياً معظم المقومات محلياً حالياً ولكن في نفس الوقت يجب عدم تجاهل هذا الاختيار كما يجب عدم الاعتماد عليه كلية. ففي خلال العشر أعوام الماضية استطاعت على الأقل 4 شركات بدأت تحت ظروف مماثلة للشركات العربية في الوصول للعالمية بدون اكتشاف أدوية جديدة.
مثلاً زفَقفٍّ؟ الهندية التي بدأت في نفس الوقت مع معظم الشركات المحلية بإنتاج أدوية مثيلة وصلت مبيعاتها في عام 2000 إلى 500 مليون دولار وفى عام 2005 إلى 2,1 مليار ومتوقع أن تصل إلى 3 مليارات دولار عام 2010 (وهو 75% من مبيعات كل الشركات العربية مجتمعة) من خلال وضع وتنفيذ خطط توسع عالمي طموحة جعلتها اليوم من اكبر 10 شركات لإنتاج الأدوية المثيلة في العالم.
إذن ما هي الخيارات الاستراتيجية التي تواجه الصناعة والتي يمكن أن تأخذها للعالمية؟ في البداية لماذا العالمية؟ ببساطة لسببين. أولا: لأن السوق العالمي بلغ ما يقرب من 569 مليار دولار عام 2005، فقط 8 مليارات منه كان في الشرق الأوسط( أقل من 2%).
واعتمدت معظم دول المنطقة على الاستيراد بنسب تتراوح مابين 50% ـ 94% أي أن صناعة الدواء المحلي لم تحظ بأي نصيب يذكر من السوق العالمي وبنصيب متوسط من السوق الإقليمي. وفي حالة استمرار الوضع الحالي من نمو شركات صناعة الأدوية المثيلة( امَمْيك ( العالمية وتقوقع الشركات المحلية إقليمياً بنفس المعدل واعتمادها على المناقصات الحكومية قد ينتهي الأمر بحرب أسعار محلية تؤدي الى اندماجات واستحواذات محلية وإقليمية
ثم إغلاق خطوط إنتاج ومصانع لضغط التكلفة وتنظيم الصناعة مؤقتا في 5 ـ 10 كيانات إقليمية. وقبل أن تلتقط تلك الكيانات أنفاسها ستصبح عرضة للاستحواذ من شركات الأدوية المثيلة العالمية ـ مثلما بدأ هذا التوجه باستحواذ شركات عالمية على شركتين في مصر وجنوب افريقيا لكل منهما ما يقرب من 7 % حصة من سوقهما المحلي.
باختصار قد ينذر استمرار التقوقع المحلي أو حتى الإقليمي بتحول السوق المحلي لمجرد سوق استهلاكي لشركات الأدوية المثيلة العالمية بدلا من أن تكون صناعة منتجة ومنافسة. ونتيجة لعوامل عدة مثل اتجاه معظم الدول الأوروبية وكندا إلى الأدوية المثيلة وتشجيعها في محاولات لضغط الإنفاق الدوائي واتساع رقعة الاتحاد الأوروبي ودخول بلاد أوروبا الشرقية والوسطى بأسواقها الغالب عليها الأدوية المثيلة مثل المجر وبولندا.
إضافة إلى عولمة تلك الشركات وتحرر رأس مالها من جنسية محددة، كل ذلك أدى إلى زيادة حصة الأدوية المثيلة وتسهيل إجراءات دخولها السوق الأوروبي. بالتالي ورغم كل التحديات والمنافسة لم يكن هناك وقت أفضل لشركات الأدوية المثيلة ـ ككل الشركات المحلية ـ لدخول تلك الأسواق. بالتالي يبرز البديل الأفضل وهو التوسع على الأسواق العالمية الأكثر تأثيراً ـ والسؤال هو كيف؟
بينما يعلم معظم القائمين على قطاع الدواء الإجابة لم تتخذ خطوات ملموسة لتغيير الوضع الذي أعزيه مرة أخرى لفقدان الرعاية التي توجه وتضع الأهداف الطموحة للقائمين على الصناعة لوضع استراتيجيات التغيير خاصة التوسع المباشر من خلال الأدوية المثيلة كسياسة تخدم المدى القصير للمتوسط بينما نبدأ في تحضير المناخ للبحوث والاكتشاف على المدى الطويل (15 ـ 20 عاما).
وتحقيق ذلك التوازن بين سياسات المدى الطويل التحضيرية وتفعيل خطوات المدى القصير للمتوسط التنفيذية من شأنه نقل صناعة الدواء المحلي للخريطة العالمية بثقة وسرعة. وكأمثلة لتلك الخطوات التي يمكن تنفيذها بسرعة ولها تأثير ومردود بالغ:
* وضع خطط استقطاب وجذب الاستثمارات ـ سواء الناتجة من أرباح القطاعات الأخرى أو الهاربة من تجارب انخفاض أسواق المال والراغبة في عوائد مستقرةـ وإعادة استثمارها لتنفيذ صفقات استحواذ عكسية لشركات أوروبية ويابانية متوسطة الحجم لإنتاج الأدوية المثيلة امَمْيك كخطوة سريعة لدخول تلك الأسواق حيث تتمتع تلك الاسواق بمناخ مؤات للأدوية المثيلة وتمثل أكثر معدلات نمو لها بالعالم بل وتشجعها الحكومات الأوروبية كما سبق.
* شراء حقوق تسويق بعض الأدوية المثيلة الحديثة نسبيا في بعض الأسواق الأوروبية كنواة لبناء كيان تسويق ومبيعات والمزج بين سياسات دخول السوق عن طريق التصنيع ودخوله عن طريق التسويق وهو استثمار محدود بالمقارنة باستثمارات الاستحواذ على شركات ثم استغلال ذلك بشكل مواز في تطوير كفاءتها التسويقية.
* إسراع تأهيل المصانع المحلية لتسجيلها وترخيصها بالاتحاد الأوروبي وأميركا ـ وهي عملية ليست صعبة أو مستحيلة ـ حتى تتمكن من التصدير والمنافسة على عقود تصنيع لشركات هناك تمكنها من اكتساب خبرة السوق، كذلك عقد تعاون واتحادات محدودة مع شركات إنتاج أدوية مثيلة لدخول أسواق كندا وأستراليا التي تمثل نسبة جيدة من السوق العالمي للأدوية المثيلة وتتبع نفس الأسلوب حتى وإن انخفضت ربحيتها في البداية.
* نقل الشراكات مع الشركات العالمية لشراكة الاتجاهين، فاليوم الشراكة في اتجاه واحد بأن تنتج الشركات المحلية أدوية بترخيص من العالمية وتنقل الأخيرة تكنولوجيا محدودة من أجل تلك الأدوية دون أن تستغل الشركات المحلية هذه الشراكة لتطوير كفاءاتها المحلية مثلا من خلال إعارة كفاءاتها المتميزة لعام أو اثنين لفروع الشركات العالمية في الأسواق العالمية لتعلم تلك الأسواق ونقل خبراتها.
بالطبع كل هذا إضافة الى دفع سياسات المدى الطويل من أجل الاكتشاف والتطوير مثل وضع آليات وتشريعات لتنظيم وتيسير عمل الباحثين ومراكز البحوث والمؤسسات الطبية المحلية مع الشركات العالمية في مجالات التجارب الإكلينيكية التي من شأنها تنمية قدرات الكوادر المحلية واندماجها مع التطور العالمي في البحوث. كذلك دعم الآليات التنفيذية لحماية الملكية الفكرية.
أيضا إنشاء مجتمعات وقرى لجذب مراكز الأبحاث مثل ما بدأته دبي في دبيوتك ثم تعميق ورفع مستوى تلك الشراكة لمستوى التمويل الجزئي لمشاريع محدودة ذات تكلفة متوسطة وهامش خطورة محدود مثل مشاريع اكتشاف المشخصات البيولوجية التي تعتبر نواة لبحوث الدواء الحديثة.
بالتأكيد هناك العديد من الأفكار والمقترحات الأخرى لدى خبراء القطاع يمكنها تطوير الصناعة ونقلها للمستوى العالمي أو على الأقل حمايتها من خطر الاختفاء. ولكن كل ذلك يتوقف في المقام الأول على الرعاية الممنوحة لصناعة الدواء والتي أثبتت أن مجرد تبني أي قطاع وتسخير الطاقات له كالطيران والسياحة والتطوير العقاري والبتروكيماويات ينتهي بوصول تلك القطاعات للعالمية مهما كانت التحديات.
استشاري تنمية الجودة والكفاءة لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ـ شركة «ليللي» للأدوية