منذ فترة وانا أتلقى هدايا صغيرة من معهد اميركي يبدو انه يمتاز بالكرم، هذه الهدايا عبارة عن مقالات مترجمة بدرجة عالية من الجودة من صحف عربية يرسلها لي هذا المعهد بانتظام في صورة رسائل الكترونية، كل بضعة ايام ومن دون اي مقابل مادي. تلك الرسائل تصل ايضاً الى سياسيين واكاديميين والى العديد من الصحفيين وعادة ما تحتوي هذه الرسائل على موضوعات مهمة.وكلما تلقيت خطاباً الكترونياً من ذلك المعهد، يتلقى كذلك زملائي في صحيفة «الجارديان» رسالة مماثلة ثم يقومون بتحويلها الي بشكل منتظم واحياناً يشيرون الى انني ربما اود ان اقرأ محتوى الرسالة المترجم وأقوم بالكتابة عنه. وإذا كانت تلك الاشارة آتية من زميل أقدم مني وأعلى مني في المنصب، أشعر بأنه بالفعل ينبغي لي ان أكتب عنها. فعلى سبيل المثال وصلت اليّ رسالة الاسبوع الماضي ادعى فيها طبيب سابق في الجيش العراقي ان الرئيس العراقي صدام حسين أعطى أوامر شخصية بقطع أذن أي جندي يحاول التهرب من الخدمة. إن المعهد الذي يترجم تلك المقالات هو معهد بحوث وأعلام الشرق الأوسط المعروف اختصاراً باسم «ميمري». وفي الوقت الذي يتخذ المعهد من واشنطن مقراً له فإن له مكاتب فتحت مؤخراً في لندن وبرلين والقدس. ويتم دعم عمل هذا المعهد عن طريق الاموال التي يتم جمعها من دافعي الضرائب الأميركيين لأن المعهد يتمتع بنظام دعم مالي معين كمنظمة مستقلة غير ربحية وغير حزبية بموجب القانون الاميركي. ويهدف المعهد كما هو موضح في موقع على الانترنت الى جسر هوة اللغة بين الغرب، حيث لا يتكلم العربية إلا القليلون، والشرق الأوسط وذلك عن طريق «تقديم تراجم للمقالات المكتوبة بالعربية والفارسية والعبرية مع مراعاة التوقيت بشكل كبير». وعلى الرغم من تلك البيانات التي تتسم بقدر عال من الفكر، فإن هناك العديد من الاشياء التي لا تجعلني أشعر بالراحة، كما يُطلب منّي ان أنظر الى أية قصة يوزعها معهد ميمري. أول هذه الاشياء هي ان هذا المعهد يبدو انه منظمة غامضة. فموقع المعهد على الانترنت لا يعطي أسماء أي أشخاص يمكن الاتصال بهم ولا يوجد أي أثر لعنوان مكاتب هذه المنظمة. سبب هذه السرية المفروضة على المعهد كما يقول احد الموظفين السابقين به، هو انهم «لا يريدون ان يصل الذين يقومون بتفجير أنفسهم اليهم». نظرت لهذا الاجراء على انه حذر زائد عن الحد من قبل معهد يريد فقط العمل على جسر الهوة بين اللغات. الشيء الثاني هو ان القصص التي يختارها المعهد للترجمة كلها تتبع خطاً متكرراً: إما انها تتكلم بشكل سييء عن شخصية العرب أو بطريقة أو بأخرى تناصر السياسة الاسرائيلية، وأنا لست وحدي في هذا الاعتقاد. يقول ابراهيم هوبر من مجلس العلاقات الاميركية الاسلامية في مقابلة مع «واشنطن تايمز»: «هدف ميمري هو العثور على أسوأ كتابات ممكنة من العالم الاسلامي ونشرها على أوسع نطاق ممكن». وبالطبع ربما يرد المعهد على هذا القول بالتأكيد انه يعمل على تشجيع الوسطية والاعتدال عن طريق القاء الضوء على أمثلة التطرف والتحامل الصارخة. ولكن لو كان ذلك هو الأمر، ربما كان على المرء أن يتوقع من المعهد ـ تماشياً مع مبادئه اللاحزبية ـ العمل على نشر مقالات المتطرفين اليهود في الصحافة العبرية ايضاً. وعلى الرغم من ان معهد ميمري يدّعي انه يقدم ترجمات من الصحافة العبرية ايضاً، فأنا لا أتذكر انني تلقيت أي مقالة في هذا الصدد. وهناك دليل على موقع المعهد على الشبكة العالمية يلقي شكوكاً على وضعها اللاحزبي هذا، فبجانب قيامه بدعم الديمقراطية الليبرالية، والمجتمع المدني والسوق الحرة، فان المعهد كذلك يؤكد على «تماشي المفاهيم الصهيونية وتناسبها مع الشعب اليهودي ومع دولة اسرائيل» هذا ما اعتاد موقع المعهد على الشبكة على قوله، ولكن الالفاظ الخاصة بالصهيونية تم حذفها. غير ان الصفحة الرئيسية التي كانت عليها الالفاظ المتعلقة بالصهيونية لا يزال يمكن العثور عليها في ارشيف الانترنت. يتضح سبب جو السرية الذي يحيط بالمعهد بشكل اكبر عندما ننظر الى الذين يقفون خلفه. فمؤسس ورئيس المعهد والرئيس الخاص بالموقع على الشبكة، هو شخص اسرائيلي يدعى ايجال كارمون. السيد ـ او بالاحرى الكولونيل ـ كارمون هذا قضى 22 عاما في العمل داخل الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية ثم عمل بعد ذلك مستشارا خاصا بمكافحة الارهاب لدى كل من رئيس الوزراء الاسبق اسحاق شامير وكذلك رئيس الوزراء الاسبق اسحاق رابين. والحصول على صفحة اخرى الغيت من موقع ميمري على الانترنت يكشف هوية قائمة من مسئولي المعهد، فمن الاشخاص الستة الذين تم ذكرهم على هذه القائمة هناك ثلاثة، بمن فيهم الكولونيل كارمون، تم تعريفهم بأنهم كانوا يعملون مع الاستخبارات الاسرائيلية. ومن بين الثلاثة الآخرين، هناك شخص خدم في الجيش الاسرائيلي، والاخر له خلفية اكاديمية والاخير ممثل كوميدي سابق. الشخص الذي شارك كارمون في تأسيس المعهد هي السيدة ميراب ورمسر، التي تشغل ايضا منصب مديرة مركز سياسة الشرق الاوسط في معهد هدسون الذي يتخذ من انديانا بوليس مقرا له وهو المعهد الذي يصف نفسه بأنه «مصدر أميركا الرئيسي للبحوث التطبيقية الخاصة بمواجهة تحديات السياسة». وقد انضم ريتشارد بيرل، رئيس لجنة السياسة الدفاعية في البنتاغون، مؤخرا الى عضوية مجلس أمناء هدسون. السيدة ورمسر هي مؤلفة بحث اكاديمي بعنوان «هل يمكن لاسرائيل ان تتغلب على ما بعد الصهيونية»؟ وتقول في هذا البحث ان المفكرين اليساريين في اسرائيل يشكلون «أكثر من مجرد تهديد عابر» على دولة اسرائيل، ويقومون بتقويض روحها وانقاص قدرتها على الدفاع عن نفسها. علاوة على ذلك، فان السيدة ورمسر تعتبر من المتحدثات البارعات ذوات المكانة العالمية المرموقة بشأن الشرق الأوسط والتي يجعل وجودها، على حد قول شركة بينادور اسوشيتس، وهي شركة علاقات عامة، تروج لخدمات ورمسر، في اي «حدث او مقابلة تلفزيونية او اذاعية امرا فريدا من نوعه». لم يقم أي احد، على حد علمي، حتى الآن بالتشكيك في الدقة العامة لترجمات المعهد، ولكن هناك اسباب اخرى يجب وضعها في الاعتبار بشأن انتاج هذه المؤسسة. فالرسالة الالكترونية التي قام المعهد بارسالها مؤخرا بشأن صدام حسين وقيامه باعطاء أوامر بقطع اذن المتمردين والهاربين من الخدمة العسكرية، كانت عبارة عن مقطع مأخوذ من مقالة طويلة نشرتها مجلة «الحياة» اللندنية كتبها عادل عوض الذي ادعى أنه على علم مباشر بهذه الواقعة. هذه الواقعة تدخل في نطاق القصص التي تروى عن وحشية النظام العراقي والتي تجد الصحف سعادة كبيرة في نشرها من دون اي تحقيق لاسيما في ظل الاجواء الحالية التي تسيطر عليها حمى الحرب، وكذلك ربما تكون القصة حقيقية، ولكن هناك حاجة في التعامل معها بقليل من الحذر. فالسيد عوض ليس كاتبا مستقلا تماما فهو عضو او على الاقل كان عضوا، في التجمع الوطني العراقي وهي عبارة عن جماعة معارضة عراقية تعمل في المنفى وتدعمها الولايات المتحدة الاميركية، ولم تقم «الحياة» او ميمري بذكر هذه المعلومة عند نشرها للمقالة. كذلك فإن ادعاء عوض كان قد ظهر منذ اربعة اعوام، عندما كان لديه سبب شخصي قوي لان يقول هذه القصة، فطبقا لتقرير اوردته صحيفة «واشنطن بوست» عام 1998، فإن ادعاء القطع هذا كان جزءا من محتويات الطلب الذي تقدم به عوض للحصول على حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة. اثناء ذلك الوقت كان عوض واحدا من ستة عراقيين اخرين قيد الاعتقال في اميركا بسبب اتهامات تتعلق بالارهاب او العمل مع جهاز الاستخبارات العراقي، وكان يحاول ان يظهر ان الاميركيين ارتكبوا خطأ في عملية الاعتقال. وفي وقت سابق من هذا العام، حقق المعهد نجاحين اعلاميين مهمين ضد السعودية، الاول كان ترجمة لمقال من صحيفة «الرياض» قالت كاتبته ان اليهود استخدموا دم الاطفال المسيحيين او المسلمين في فطير صهيون الخاص بعيد البوريم اليهودي. وكانت الكاتبة فيما يبدو، تعتمد على اسطورة تعود الى العصور الوسطى والامر الذي مثلته هذه القصة، اكثر من اي شيء، هو جهل الكثير من العرب باليهودية واستعدادهم لتصديق تلك القصص السخيفة. ولكن المعهد ادعى ان صحيفة «الرياض» صحيفة حكومية في حين انها في الحقيقة صحيفة خاصة مشيرا بذلك الى ان المقال نال شكلا من اشكال الموافقة الرسمية للحكومة. وقال رئيس تحرير الصحيفة انه لم ير المقال قبل النشر لانه كان بالخارج وقتها، وقام بتقديم اعتذار وبدون تردد انهى التعاقد مع هذه الكاتبة، التي كانت استاذة في الجامعة، ولكن بعد ان كان الضرر قد وقع بالفعل. النجاح الثاني الذي حققه المعهد ضد السعودية جاء بعد شهر من تلك الواقعة عندما قام سفير السعودية لدى انجلترا بكتابة قصيدة عنوانها: «الشهداء» وكانت تدور حول فتاة صغيرة قامت بتفجير نفسها، وتم نشر تلك القصيدة في صحيفة «الحياة». وقام المعهد بترجمة قطعة من هذه القصيدة ووصفها بأنها «تمجد المنتحرين» ويحتاج الأمر الى بعض النقاش الخاص بما اذا كانت تلك هذه بالفعل الرسالة التي تحملها القصيدة ام لا، فالقصيدة ربما تقرأ على انها تندد بعدم الفعالية السياسية للقادة العرب، ولكن ما حدث هو ان تفسير المعهد للقصيدة هو بالضبط ما تم تناقله من دون اي جدال او مساءلة عبر وسائل الاعلام الغربية. ينبغي ألا ينظر لتلك الأحداث التي تتعلق بالمملكة العربية السعودية على أنها وقائع فردية منعزلة عن منهاجية المعهد، فتلك الاحداث هي جزء من جهود بناء قضية واتهام ضد المملكة ومحاولة اقناع الولايات المتحدة الاميركية بالتعامل معها كدولة معادية وليست كدولة حليفة. ان هذه الحملة اخذت الحكومة الاسرائيلية واخذ الاصوليون المسيحيون الجدد في اميركا في اشعالها منذ بداية العام الجاري وكان احد مظاهرها ذلك البيان السخيف الذي ادلى به ريتشارد بيرل في البنتاغون ضد السعودية الشهر الماضي. ويجب ان يكون الامر واضحا لكل من يقرأ الصحف العربية بانتظام ان المقالات التي يختارها المعهد تناسب فقط برنامجه السياسي وليست مرآة لمحتويات الصحف بالكامل. ويكمن الخطر في ان الكثير من اعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس و«المصلحين» الذين لا يعرفون العربية ولكن يتلقون الرسائل البريدية التي يوزعها المعهد ربما يكونون فكرة ان هذه الامثلة المتطرفة ليست فقط اشارات حقيقية ولكنها ايضا تعكس سياسات الحكومات العربية. ويبدو الكولونيل كارمون متحمسا لتشجيع هؤلاء لان تصل اليهم هذه الفكرة ففي واشنطن في ابريل الماضي وفي شهادة له امام لجنة الكونغرس للشئون الدولية، صور كارمون الاعلام العربي على انه جزء من نظام واسع المدى لمباديء وافكار ترعاها الحكومات. قال كارمون: «ان الاعلام الموجة للحكومات العربية يغذي مشاعر الكره ضد الغرب وبالتحديد ضد الولايات المتحدة الاميركية، فقبل احداث الحادي عشر من سبتمبر، كان يمكن للمرء بشكل معتاد ان يعثر على مقالات تدعم او حتى تدعو بشكل واضح الى القيام بهجمات ارهابية ضد اميركا.. ان الولايات المتحدة في بعض الاحيان يتم مقارنتها بالنازيين ويتم مقارنة بوش بهتلر وجوانتانامو بأوشفيتش. وفيما يتعلق بقناة الجزيرة قال كارمون: «الغالبية العظمى من الضيوف والمتصلين يتهمون بشكل واضح بمعاداة اميركا ومعاداة السامية. ولسوء الحظ فانه على اساس تلك التعميمات تتم بلورة وصياغة جزء كبير من السياسة الخارجية لاميركا في هذه الايام. وفيما يتعلق بالعلاقات بين الغرب والعالم العربي تعتبر اللغة حاجزا يغذي ويطيل امد وعمر الجهل ويمكن ان يؤجج ويزيد بسهولة من سوء الفهم. فكل ما يلزمه الامر هو ان تقوم مجموعة ناشطة من الاسرائيليين باستغلال ذلك الحاجز لمصالحهم الخاصة ويبدأون في تغيير المفاهيم الغربية بشأن العرب الى الاسوأ. ليس من الصعب ان نرى ما يمكن للعرب ان يفعلوه في مقابل هذا فمجموعة من شركات ومؤسسات الاعلام العرب يمكنها ان تتجمع معا وتنشر ترجمات لمقالات تعكس بشكل اكثر دقة محتوى صحفهم العربية. وبالتأكيد لن تعجز مواردهم عن القيام بهذا الامر ولكن كالعادة ربما يفضلون ان يجلسوا مبدين امتعاضهم من آليات الاستخبارات الاسرائيلية. ترجمة: حاتم حسين عن «جارديان»