بيان الكتب: كلّ عمل ينفع الانسان ويرقى به عمل راق شريف. غير ان اشرف الاعمال وارقاها، وانفعها وابقاها التعليم وما اعان عليه من رعاية ذوي الكفاية، وبذل اهل الفضل، وقد قيّض الله لهذه الامة على امتداد تاريخها رجالاً اثرياء اسخياء، عرفوا كيف يشترون بثرواتهم مجد الدنيا واجر الاخرة، اذ ادركوا ان اسخى الاسخياء من يجري ما آتاه الله من مال على العلم والتعليم وما يتصل بهما من بناء المدارس، وانشاء المكتبات، ووقف الاوقاف التي تكفل استمرار القيام بخدمة الكتاب والسنة، كالأزهر في القاهرة، والزيتونة في تونس، والظاهرية في دمشق، والقرويين في فاس. واذا كان العهد قد تقادم بهذه المعاهد، فما عهد القارئ بكلية الدراسات الاسلامية والعربية بدبي وبمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بقديم ولا ببعيد، ولاجعلهما حلقتين وضيئتين في هذه السلسلة المباركة من صروح الفكر العربي الاسلامي بمدح ولا تزكية، وانما هو ربط للحاضر بالماضي، وحث لأهل الخير على ان يسلكوا المسلك المفضي الى الجنة. ومن حلقات هذه السلسلة دار الحديث الاشرفية، وهي واحدة من مدارس كثيرة لم يخب نورها منذ انشئت قبل ثمانية قرون حتى يومنا هذا. فأين انشئت هذه الدار؟ ومن انشأها؟ ومن ابرز العلماء الاعلام الذين تعلموا فيها وعلموا؟ وما الرسالة التي حملت تبعاتها ونهضت بأدائها؟ وكيف تطورت طوال عمرها المديد؟ عن هذه الاسئلة اجابنا الباحث المعروف بغزارة التحقيق والتأليف في ميدان التراث العربي الاسلامي الدكتور محمد مطيع الحافظ في كتاب عنوانه (دار الحديث الاشرفية بدمشق). وهذا الكتاب ينطوي على ثلاثمئة وثلاثين صفحة وخمس وسبعين صورة لبناء المدرسة ورجالها واجازاتها، وللمخطوطات التي توثّق ما في الكتاب من تأريخ وبحث. انجز المؤلف كتابه سنة 1999م ونشرته دار الفكر بدمشق سنة 2001م. مكان الدار سوق العصرنية القديمة بدمشق، وزمان انجازها سنة 634ه، وبانيها هو الملك الاشرف موسى بن العادل الايوبي المولود في القاهرة عام 576 هـ والمتوفى في دمشق عام 635 ه. وبرغم الاعباء السياسية الثقال التي نهض بها الملك الاشرف فقد كان منصرفاً الى العلم، حريصاً على دراسة الحديث وحفظه، يسمعه من رجاله الثقات، ويدرسه على شيوخه الاعلام، ومنهم ابن الزبيدي، وابن طبرزد، وابن سبط الجوزي. وكَلَفُه بدرس الحديث جعله كلفاً ببناء المساجد ودور العلم، حريصاً على عمارتها بالمكتبات، وامدادها بنفائس الكتب، وصفوة المدرسين، واشهر ما بنى في دمشق داران: اولاهما ادار الحديث الجوانية التي خصصت للشافعية، والثانية دار الحديث البرانية التي خصصت للحنابلة، واقترن اسمها باسم بانيها، اذ عرفت بدار الحديث الاشرفية. وعن هذه الدار يتحدث الكتاب. لاستمرار العمل في دار الحديث وقف الملك الاشرف اوقافاً، تفي بما تحتاج اليه من رواتب المدرسين، والمشرفين على خدمتها، والقائمين برعايتها من الامام والمؤذن الى الناظر والقارئ. وتقوم بما يحتاج اليه طلاب العلم من المقيمين في دمشق الى الوافدين عليها. ومن هذه الاوقاف ثلث قرية حزرما، وعشرة حوانيت كاملة، واسهم من سبعة حوانيت اخرى، وقيسارية كاملة. ولم تكن غلات هذه الاوقاف تفي برواتب القائمين على المدرسة، وحسب، بل كانت تفي بها وبنفقات الصيانة، وتقدم الى المسجد الملحق بها ما يحتاج اليه من حصر وبسط وقناديل، والى المكتبة ما تحتاج اليه من اثاث وكتب وآلات. وههنا يحسن بنا ان نشير الى ان موارد الاوقاف كانت الضمان الاكثر استقراراً واستمراراً لهذه المدرسة وامثالها من المؤسسات العلمية والتعليمية، وان الغاء الاوقاف في العصر الحاضر قطع العروق التي كانت تغذيها بنسغ الحياة، فماتت او كادت تموت، او الحقت بالمؤسسات الرسمية، فتقلبت مناهجها وبرامجها، وشحت مواردها، وتلوت بها السبل، وكادت تنصرف عن الغاية التي وجهها اليها بناتها الاوائل. ويبدو ان الملك الاشرف كان حريصاً على مستقبل الدار حرصه على حاضرها، فقيد ما وقف بشرط يزيد نفعه، ولا ينقصه، اذ آثر ان تكون الاوقاف الموقوفة على الدار فوق ما تحتاج اليه، وقدّر انها ستغل اكثر مما تنفق، ولهذا اشترط بأن يشترى بالغلة الزائدة عقارات اخرى تقوم بحاجة الدار بعد توسعها المتوقع. وهذا الضرب من الوقف المتنامي كفل للدار البقاء والنماء طوال هذه القرون الثمانية. فلم يصبها الوهن الا في عصور التخلف والجمود اي في القرن الحادي عشر الهجري، اذ دب فيها الضعف، وانتهت ادارتها الى مشايخ ومعلمين لم يكونوا ذوي كفاءة عالية، وزاحمت علوم اللغة وفنون الادب والنقد علوم الشريعة، ومع ذلك بقيت على حظ من القدرة كفل لها النهوض برسالتها. بقيت دار الحديث تستقبل طلاب العلم، وتلقنهم الحديث، وتصنع منهم الائمة والقضاة، والمعلمين، والدعاة، وظلت تبث فيما حولها الورع والتقوى والخلق الكريم، وتعقد حلقات التدريس، وترشد طبقات المجتمع، وتمدها بما تحتاج اليه من فقه وفتوى، وتهذبها بما جبلت عليه من فضائل ومناقب. وفي فترات الازدهار هيأ الله لها من العلماء الاعلام صفوة يفخر بها العالم الاسلامي كله لا دمشق وحدها ومن ابرز علمائها الاعلام الذين تعلموا فيها وعلموا، واخذوا منها واعطوا، وشهدوا لها بالفضل بعد التخرج: ابن كثير، والفيروزابادي، والقزويني، والبرزالي، والفارقي، والنووي، والسبكي.. واخرون انتظموا في سلكها، وزانوا جيدها بعقد فريد، قلما نجد له مثيلاً في المدارس الاخرى. وقد عني مؤلف الكتاب بالاحصاء والاستقصاء، وتعقب تراجم الشيوخ الذين درسوا فيها وصنفهم وفق اختصاصاتهم، فكان منهم المحدثون والقراء والائمة والفقهاء، وكبار المحدثين. خص الباب الثاني برجال الحديث، وسرد تراجمهم مفصلة وفق تعاقبهم الزمني، واحصى منهم اكثر من خمسين شيخاً، ابرزهم تاج الدين السبكي وابن جماعة من الاقدمين، وبدر الدين الحسني من المحدثين، ووقف الباب الثالث من الكتاب على شيوخ القراءات، وترجم لاثني عشر قارئاً اشهرهم ابن النقيب، وابن الجزري. وفي الباب الرابع تحدث عن الائمة وسرد تراجمهم، وابرزهم يحيى الكركي، ويحيى الفارقي. وفي الباب الخامس تحدث عن كبار المحدثين ومشاهير القصاد الذين نزلوا بالدار، واصابوا من علمها او اصابت من علمهم، واشهرهم الفيروزا بادي صاحب القاموس المحيط. اما مكتبة المدرسة فقد خصها المؤلف بباب كامل، ففي الباب السادس تحدث صاحب الكتاب عن انشاء المكتبة، وعن المصادر التي استمدت منها كتبها القيمة، وعن احتراق جانب منها في القرن الرابع عشر الهجري، وعن العلماء الكرماء الذين كانوا يهدونها مكتباتهم الخاصة، او يقفون عليها مجموعات من كتبهم النفيسة. ومما جاء في هذا الباب ان الامام النووي زهد في الرواتب التي كانت المدرسة تدفعها اليه، فلم يصب منها درهماً واحداً، بل كان يشتري بها الكتب، ويقفها على المدرسة. وذكر كذلك ان نزيل دمشق عمر بن يحيى الكرجي المتوفي عام 696 هـ وقف عدداً من المجاميع التي يملكها على دار الحديث، وان محمد بن عبدالخالق الانصاري الشافعي المتوفى سنة 690 هـ وقف كتبه كلها على دار الحديث. واذا كان وقف الكتب دليلاً على غزارة الموارد التي تستمد منها الدار روافدها الثقافية، فهو في الوقت نفسه دليل على ان الصلة بين الدار وشيوخها وتلاميذها وضيوفها لم تكن تنقطع برحيل اولئك الابرار عن الدنيا، بل كانت تبقى ما بقيت كتبهم دولة بين ايدي الشيوخ والطلاب تصل حاضراً بماض، وتلميذاً بمعلم، وتحفظ للتاريخ الثقافي استمراره وازدهاره. ولولا الحريق الذي اتى على جانب من دار الحديث سنة 1320 هـ لورثنا عنها مكتبة زاخرة بالمخطوطات. ويبدو مما عرضه الدكتور محمد مطيع الحافظ في كتابه ان القرون الثلاثة الاخيرة من حياة الدار كانت فترة ركود وخمود، وان العمل فيها كاد يكسد لولا عزائم الغيارى من اهل العلم، ومنهم الشيخ بدر الدين الحسني، وتلميذه يحيى المكتبي، والشيخ محمود الرنكوسي الذي كان شديد التعلق بالدار، حريصاً على ملازمتها، ساعياً الى تجديدها. وفي عام 1952م نهض كبار التجار في دمشق بتبعة التجديد، فرمموا مسجدها، ووضعوا خطة متكاملة الجوانب لتحديث دار الحديث، بناء، وتدريساً، ورفعوها الى رئيس الجمهورية السورية هاشم الاتاسي فوافق عليها عام 1954م. وبذلك اكتسبت المساعي الشعبية صفة رسمية، واستأنفت الدار نشاطها التعليمي، وخرجت في الثلث الاخير من القرن العشرين مئات الطلاب، واصبحت مرة اخرى صرحاً علمياً، تفخر به دمشق، ومنارة ثقافية تصل الحاضر بالماضي، وتشهد لأولي الفضل والبذل بالغيرة على الدين، والحرص على التقدم العلمي، وللمؤلف بسعة الافق، والاحاطة بالتراث، والحرص على بعثه واحيائه. د. غازي مختار طليمات