كانت تتنقل بخفة هنا وهناك.. قدماها تلتقيان بخشبة المسرح، وكأنهما مشدودتان إليه بمغناطيس.. وعندما تقفز فإنها تحلق منتشية كفراشة تنثر ذراتها الذهبية على الزهور.. تفتح ذراعيها برشاقة، وكأنها تسعى لاحتضان العالم.. ولولا الجاذبية الأرضية لشقت عباب الهواء وطارت بعيداً نحو أحلامها. إذا نظرت إلى وجهها.. ابتسامتها.. عينيها.. فسترى أن ما تقوم به شهرزاد شاكر هو ليس حركات راقصة، وإنما هو نوع من رياضات «اليوجا»، حيث تعيش هذه اللحظات في عالمها الخاص، منقطعة عما يحيط بها، إلاّ من صوت الموسيقى وضربات الإيقاع.. ورغم أنها هجرت عالم الرقص منذ عدة سنوات، واتجهت إلى التمثيل، ألاّ إنها مازالت تمارسه من خلال تدريبها لأعضاء فرقتها، وغيرها من الفرق الاستعراضية التي تقدم عروضها في المسرحيات الاستعراضية والمهرجانات والمناسبات.. فهي تعشق عملها كمدربة وتتميز به، وربما هذا ما جعلها من أهم مدربات الرقص في العراق حالياً.. وبينما كنا نراقب شهرزاد، وهي تؤدي حركاتها، ويتبعها أعضاء الفرقة بأداء الحركات نفسها.. كان لابد من سؤالها عن مدى تمكنها من التحكم في هذا العدد الكبير من الشباب والشابات.. وكيف تخلق تمازجاً بين حركات أجسادهم بحيث تشكل من كل ذلك لوحة فنية راقصة ؟ وهل أن الرقص هو موهبة شأنه شأن الفنون الأخرى، أم أنه نوع من التمرين الجسدي الذي يتطور ويتكامل بالخبرة والتدريبات المستمرة؟ هذه التساؤلات مجتمعة وضعناها أمام شهرزاد شاكر بعد أن انتهت من عملها، فأجابت: ـ الفن لا ينشأ من لا شيء، للفن جذور تمثل الأساس الذي يساعد على تطوره ونموه، والموهبة هي الأساس في ذلك والرقص كفن يحتاج إلى الموهبة.. والدليل على ذلك هو أن التاريخ شهد بروز العديد من الراقصين والراقصات، عربياً وعالمياً.. ولو لم يكن الرقص يحتاج إلى موهبة لاشتهر أغلب الناس.. فكل الناس، ولنقل الغالبية منهم، يعرف الرقص ويمارسه في المناسبات الخاصة والعامة.. وليس بالضرورة أن يمتلك كل هؤلاء الموهبة.. هناك إنسان خلق ونشأ ليكون راقصاً لا غير. ـ وما الذي يميز الراقص أو الراقصة عن غيرهم من الفنانين ؟ ـ أشياء كثيرة.. كما هي الحال في الغناء.. هنالك المطرب الحقيقي.. وهناك المؤدي.. والمطرب هو من يتألق ويظل حياً على مدى العصور، مثل أم كلثوم، أما الآخرون فربما يمارسون الغناء طيلة حياتهم دون أن يكونوا مطربين.. كذلك الحال في الرقص.. الرقص الحقيقي يحتاج إلى الموهبة كما قلنا، اضافة الى الأذن الموسيقية والتركيز الشديد والمرونة الجسدية، التمارين المستمرة، وأمورأخرى، مثل الرشاقة والجرأة والحيوية. ـ إذن.. الرقص من الفنون الصعبة برأيك؟ ـ جداً.. فعلى الراقص أن يمارس تدريبات مستمرة، لكي يحافظ على لياقته، حتى عندما يكون خارج العمل.. كما إنه يحتاج إلى التغيير والتطوير المستمر، لأن الرقص شأنه شأن الفنون الأخرى يتطور مع تطور الزمن، لذا يجب على الراقص أو الراقصة أن يكون على اطلاع دائم على كل الحركات والتغيرات التي تطرأ على هذا الفن. ـ حديثك عن الرقص يعكس حالة لابد أن تكون خاصة فما هو تعريفك للرقص، أو لنقل مفهومك عنه؟ ـ انه فلسفة رياضة روحية.. معانقة للذات.. انه حالة من حالات الصفاء التي يندر الوصول إليها فعندما كنت أرقص على خشبة المسرح، كنت ألقي بكل همومي ومتاعبي بعيداً.. ويزداد تركيزي باتجاه واحد، هو التمازج بين حركتي وحركة الآخرين من ناحية، وصوت الموسيقى من ناحية أخرى ولذا أجدني وكأني ولدت من جديد بعد انتهاء اللوحة الاستعراضية.. صافية هادئة.. خالية من كل متاعبي، سوى الفرح والجو الاحتفالي الذي تشيعه اللوحات الاستعراضية في المسرح وبين الناس. ـ وماذا عن الرقص الشرقي، والرقص الغجري الذي أخذ يغزو المسارح، بل وحتى عروض الفرق الاستعراضية؟ ـ عندما يكون الرقص أكاديمياً، يحمل أفكاراً معينة تعكسها لوحات استعراضية ممنهجة، فإنه يكون فناً ذا رسالة.. أما ما يثير الغرائز ويمتهن جسد المرأة فهذا ليس رقصاً فنياً حقيقياً، أو ليس فناً، وإنما إهانة للمرأة، واستغلال جسدها.. والرقص الغجري هو جزء من التراث، وهو جميل.. ولكن هذا لا يعني أن يتحول إلى سمة يتسم بها الرقص في العراق بشكل عام.. فلقد استغل أصحاب المسارح من منتجين ومخرجين هذه الظاهرة لزيادة إيرادات شباك التذاكر فأساءوا بذلك للمسرح وللرقص الغجري. ـ خلال وجودك في الفرقة القومية للفنون الشعبية، كيف كان دوركم في نقل تراث العراق؟ وكيف كان استقبال الناس لكم في الخارج؟ ـ شاركت مع الفرقة في مهرجانات عديدة على مدى واحد وعشرين عاماً، هي مدة ارتباطي بها.. وكان من أهم هذه المهرجانات: مهرجان كريجنتو في إيطاليا، الإسماعيلية في مصر، جرش في الأردن، قرطاج في تونس.. بالإضافة إلى الأسابيع الثقافية العراقية التي كانت تقام سنوياً في أنحاء مختلفة من العالم مثل روسيا، اليابان، أمريكا، تركيا، الإمارات، إسبانيا، وغيرها. أما استقبال الناس في الخارج لنا فكان رائعاً.. ورغم حضور العديد من فرق الفنون الشعبية كان الفولكلور العراقي مهيمناً على العروض، وكانت عروضنا تلاقي الإعجاب في كل مكان. ـ وهل نلتم جوائز في هذه المهرجانات؟ ـ نعم.. أهمها جائزة المعبد الذهبي في إيطاليا، ثم كأس الصحافة في إيطاليا أيضاً في السنة الثانية، بالإضافة إلى شهادات تقديرية وهدايا رمزية كثيرة. ـ لم إذن هذا الابتعاد عن الفرقة؟ ـ عندما انتميت إلى الفرقة، كنت في الثالثة عشر من عمري سنة 1976، وكان الأمر لا يعدو كونه تسلية.. وتدريجياً أصبحت الفرقة هي بيتي الثاني، ولم استطع الابتعاد عنها، وكبرت مع الفرقة، وشهدت ازدهارها، وشاركت في أوج نجاحاتها.. ولكني تركت العمل فيها سنة 1997 بعدما تغيرت الامور عما كانت عليه في السابق.. توقف الدعم للفرقة.. وأصبحنا مجرد موظفين، فقد امتدت يد الحصار لتشتت أعضاء الفرقة فهجرها الكثيرون، وساءت حال التدريب، وتحولت إلى «مؤسسة وظيفية»، وهذا يتنافى مع دورها طبعاً. ـ ولكن الفرقة مازالت تقدم عروضها، فهل تعلنين نهايتها؟ ـ لا.. طبعاً، مازالت عروض الزملاء جميلة، رغم الظروف القاسية التي يمر بها البلد.. ولكن لا شيء يعيدها إلى مجدها السابق ألاّ الدعم والمشاركات الدولية.. وأنا لا أعلن نهايتها، بل احتضارها. ـ وهل كان هذا هو سبب انتقالك إلى التمثيل؟ ـ كانت صدفة.. فقد عرض علي الصديق المخرج اكرم كامل المشاركة في فيلم تلفزيوني ( شكوك ).. ثم أشاد بي كممثلة.. وتوالت الأدوار. ـ ألم تدرسي التمثيل ؟ ـ لا.. تعلمته فقط من الآخرين.. والحياة أكبر مدرسة. ـ أهم أعمالك على الساحة الفنية الدرامية ؟ ـ اشتركت في مسلسلات كثيرة مثل قضية الدكتور «س»، و«اليسر بعد العسر» (تاريخي)، و«تاريخ نزول الآيات» (تاريخي ـ ديني)، و«أبو جعفر المنصور» (تاريخي)، و«رمال تحرق الأقدام» و«البيوت أسرار» و«لو كنت القاضي» و«حكايات الشيخ رمضان».. أما أهم أدواري فهي (خولة) في مسلسل (عشاق).. وأكثرها أهمية (د. شهد) في (الوحش).. ولكن دور (الخادمة سناء) في (مناوي باشا) كان له الأثر في انتشاري جماهيرياً فما زال الناس ينادونني بـ (سناء)، أينما ذهبت. ـ وهل لك مساهمات في المسرح؟ ـ نعم.. في المسرح الجماهيري مثلت (عزيزة وبس)، حيث كنت ممثلة مناوبة مع البطلة إيناس، بالإضافة إلى (ملعب المنافقين) وفي المسرح الجاد عملت في (أرض ـ جو) للمخرج كاظم النصار، وشاركت في (البريد الجوي) في رقصة تعبيرية.. وهذه الأخيرة نالت جائزة أفضل عمل في مهرجان المسرح الخامس. ـ هل يعتبر عملك كمدربة رقص حالياً تراكم خبرة أم هو موهبة أيضاً ؟ ـ الاثنان معاً، وربما أضيف إليهما حبي للرقص، وأيضاً حاجة الساحة الفنية إلى وجود مدربين بسبب عودة الأعمال الاستعراضية واستخدام الاستعراضات الراقصة في تسجيل الأغاني بطريقة الفيديو كليب. بغداد ـ كامل عبدالله
