قال صديقي كاف ميم. وهو اذا كنت لا تذكره هو الوجه الآخر لصاحبنا القديم ميم كاف, ان النكتة هي سلاح المهمومين للهرب من الهم الساكن فينا منذ دهور لا يعلمها الا الله . ولما كانت همومنا قد زادت من الحد فقد اصبحت حاجتنا الى النكتة اقوى واشد ومن حسن الحظ ان القدر الذي حرمنا من اشياء كثيرة لم يبخل علينا برواة النكت يطلقها الواحد منا في ساعة شدة فإذا بالوجوه المقطبة تنبسط, والتجاعيد تنفرج والضحكة المجلجلة تدوي كعاصفة تطرد الهم كما تطرد من طريقها اوراق الشجر الميتة. واقول (رواة النكت) لان النكتة مع انها ابداع فني على اعلى مستوى ليس لها مؤلفون كما هو الحال في القصص والروايات وقصائد الشعر وابداعاته المثالية والمصورين. وانما هي عمل جماعي فولكلوري, قد يبدأ بلمحة خاطفة يلتقطها احد الاذكياء فينقلها الى غيره مع بعض الاضافات او التعديلات من خيال وتظل تنتقل من فم الى اذن مضافا اليها او محذوفا منها اشياء مع كل راو من الرواة حتى تكتمل صورتها الاخيرة المحبوكة حبكا لا تقبل معه اي تعديل فاذا بها منتشرة من الخليج الى المحيط. قال صديقي كاف ميم بعد هذه الفذلكة التي لم تفلح في ازالة شىء من الكآبة التي نشبت مخالبها في وجداني وخواطري منذ شاهدت صورة عبدالله اوجلان وهو معصوب العينين ملثم الفم مقيد اليدين بين جلاديه ما رأيك في زيارة لنادي التنكيت والتبكيت؟ سألت وانا في حالة لا تسمح لي حتى بالاهتمام بسماع الاجابة. وماهو ذلك النادي بالله عليك؟ لم اسمع به من قبل... قال: هو ناد لاهل النكتة اتفق فيه اصحابه على اللقاء مرة كل اسبوع ليتداولوا فيه النكات فيضحكوا ما شاء لهم الضحك, وينسوا ما عانوه طوال ايام الاسبوع حتى يستقبلوا غدهم وهم اكثر استعدادا لتحمل المزيد من المعاناة... وتستطيع ان تسميه اذا اردت المغسلة القومية للهموم اليومية والابدية. كنت في حالة استسلام, شدني من ذراعي فتركت نفسي اسير معه, حتى وصلنا... عند الباب استقبلنا مضيف ضاحك كأن على وجهه الف ابتسامة تفاءلت لان هذا كان اول وجه اراه يضحك منذ ايام وربما اسابيع وسرحت خواطري وانا ادخل متشبثا بذراع صاحبي لماذا اختفت الابتسامة من شفاه اهل مدينتي ولماذا كثر عدد الناس المحترمين الذين يكلمون انفسهم بصوت عال في جميع الطرقات والأحياء؟ انتبهت من خواطري على صوت قهقهات عالية قادمة من عند باب في آخر الدهليز, تقدمنا, صديقي في المقدمة, وأنا أتبعه, القاعة, مصدر القهقهات عربية الطراز, وعلى الشلت والمقاعد نحو دستة رجال تبدو على ملابسهم ووجوهم سمات الطبقة الوسطى فما دونها. تهافتت القهقهات عندما ظهرنا بالباب, وهتف أحدهم باسم صديقي مرحبا فترنحت بين الحاضرين ضحكة خافتة كأنما مجرد ذكر اسم صديقي نكته تاريخية.. وانشغل معظمهم بشد نفس من الشيشة أو رشفة من كوب الشاي, بينما أشار أقرب الجالسين الينا أن نتخذ لنفسينا شلتتين.. فجلسنا.. صديقي في حالة ارتياح, وأنا في حالة ترقب وانتظار. هتف أحدهم فجأة, 237 فانفجر الجميع.. بما فيهم صاحبي كاف ميم ــ ضاحكين.. حتى اذا ما هدأت الضحكة هتف آخر 54.. فعادوا مرة أخرى يضحكون.. وأنا لا أفهم شيئا, وبالطبع لم أضحك, بل بدأت أغضب من صاحبي وهو يلكؤني بكوعه كي أضحك أو اتظاهر بالضحك حتى لا أكون نشازا غير مرغوب. سألته هامسا.. بينما القوم يضحكون لرقم جديد ما الذي يضحك في أرقام لا يعني لها إلا إذا كانت تعني رصيدا في بنك أو لاعبا في الاستاد؟ همس صاحبي في اذني.. هذه أرقام النكات.. فالذي حدث أنه بعد تأسيس النادي ببضعة أسابيع اكتشف الأعضاء المؤسسون أن الرواة يضيعون وقتا طويلا في سرد النكتة, بحيث يمكن أن تنتهى السهرة دون أن يسمع الرواد أكثر من خمسين نكتة.. فرأوا, اختصاراً للوقت ومن أجل اتاحة الفرصة للاستماع الى أكبر عدد من النكات أن يضعوا لها جدولا.. وأن يعطوا بكل نكتة رقما متفقا عليه ومعروفا للجميع. وبدلا من أن يسرد الراوي النكتة, فيستمر في سردها دقيقتين أو ربما خمس, يكفي أن يهتف برقمها في أقل من ثانية فيتذكرها الحاضرون ويضحكون! مرة أخرى سرحت خواطري مع هذه الفكرة العبقرية, ورحت اسائل نفسي, لماذا لا تخطر مثل هذه الافكار على منتجي معظم مسلسلات التلفزيون. افقت من خواطري فجأة على هاتف يصيح 747.. فانفجر الجميع ضاحكين وبينما أنا أقول في نفسي لابد أن هذه النكتة لها علاقة ببعض شركات الطيران. لاحظت أن أحد الحاضرين دون غيره قد استبد به الطرب فاستمر يقهقه في جنون بعد أن هدأ الآخرون, يضرب الأرض بيديه ويرفس بقدميه ويستلقى على قفاه وضحكاته تتصاعد حتى يكاد يختنق.. همست في أذن صديقي.. لماذا انفرد صاحبنا هذا بهذا الضحك الجنوني دون الآخرين؟ اجابني ببساطة الا ترى؟ واضح ان هذه هى المرة الأولى التي يسمع فيها النكتة رقم 747!!! وخرجنا.. ومع أني ضحكت ــ لا مع الرواة ــ ولكن على صاحبنا الطيب الذي جن بالضحك لنكتة لم يسمعها.. إلا أنني ما لبثت أن اكتشفت بعد أن خرجت من نادي التنكيت والتبكيت أنني, أصبحت أكثر اكتئاباً مما كنت ساعة أن دخلت.. وزاد من اكتئابي رؤية رجل في كامل ثيابه يقف في منتصف الشارع المزدحم بالسيارات المارقة دون أن يبالي بها, وهو يصرخ ويلوح بيديه غاضبا مخاطبا شخصا لا يراه, أو على الأقل لا يراه أحد مهددا متوعدا أن ينال منه حتى لو كان قد مات من سنوات. قلت لنفسي. أولى بهذا المجنون أن ينضم الى نادي التنكيت والتبكيت, وسوف أنضم اليه أنا ايضا. ولكن بشرط واحد, هو أن نحفظ أولا جدول النكات وأرقامها. على الأقل حتى يبقى له, ولي, شىء من العقل.