رغم امتلاكهما ثرواتٍ تفوق ميزانيات دول صغيرة، فالملياردير بيل غيتس يقترب صافي ثروته من 118 مليار دولار، وجيف بيزوس يتجاوز 243 ملياراً، وفقا لمؤشر بلومبيرغ للميارديرات، وعلى الرغم من قدرتهما على توظيف جيش كامل من المساعدين لإدارة أدق تفاصيل حياتهما اليومية، يصرّ اثنان من أغنى رجال العالم على الوقوف ليلا أمام المغسلة وغسل الأطباق بأيديهم.
وقال جيف بيزوس في مقابلة مع موقع "بيزنس إنسايدر" إن غسل الأطباق يشكل جزءا أساسيا من روتينه الليلي، مضيفا : "أغسل الأطباق كل ليلة، وأنا مقتنع تماما بأن هذا العمل البسيط يحمل جاذبية خاصة بالنسبة لي".
كما قدم بيل غيتس إجابة مماثلة في جلسة أسئلة وأجوبة على Reddit عند سؤاله عن عادته غير المتوقعة، قائلاً: "أغسل الأطباق كل ليلة، مع أن آخرين يتطوعون للقيام بذلك، لكنني أستمتع بالطريقة التي أقوم بها بها".
حتى الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، أشار إلى افتقاده لروتين غسل الأطباق خلال فترة رئاسته، حيث صرح في مقابلات، من بينها مقابلة مع برنامج "60 دقيقة"، أن "غسل الأطباق يمنحني شعورا بالراحة ".
قد يبدو ذلك مفاجئا، بل غير منطقي، لمن اعتاد رؤية حياة المليارديرات كحياة فائقة الرفاهية تُدار بضغطة زر. لكن الحقيقة أن هذا الطقس اليومي البسيط يخفي وراءه سرا ذهنيا عميقا، بدأ العلم بالكشف عنه مؤخرا: غسل الأطباق ليس عملاً منزليا عاديا، بل تقنية عقلية تعزز الإبداع، وتخفف التوتر، وتُعيد ترتيب الدماغ.
ففي الوقت الذي يبحث فيه ملايين الأشخاص عن صفاء الذهن عبر تطبيقات التأمل والدورات المكثفة، يبدو أن بعضا من أذكى العقول على الأرض وجدوا مفتاح الراحة والإلهام على بعد خطوات من المطبخ.
هذه الفكرة ليست جديدة تماما. فقبل عقود، قالت الكاتبة الأسطورية أجاثا كريستي: "أفضل وقت للتخطيط لكتاب هو أثناء غسل الأطباق". لم تكن تبالغ؛ فقد أثبتت الأبحاث لاحقًا أن ما اعتبره البعض مجرد طقس منزلي ممل، هو في الحقيقة محرّك إبداعيّ ووسيلة فعّالة لتهدئة الدماغ.
في عام 2015، أجرى باحثون في جامعة ولاية فلوريدا واحدة من أشهر الدراسات في هذا المجال. قُسّم المشاركون إلى مجموعتين: إحداهما طُلب منها غسل الأطباق بطريقة واعية، مركّزة على رائحة الصابون، ودفء الماء، وملمس الأطباق. أما المجموعة الأخرى فغسلت الأطباق بشكل عادي. النتيجة كانت مذهلة: المجموعة "الواعية" سجّلت انخفاضًا في التوتر بنسبة 27% وزيادة في الإلهام بنسبة 25% بعد ست دقائق فقط.
بمعنى آخر غسل الأطباق يمكن أن يكون جلسة تأمل مصغّرة وعملاً محفّزًا للإبداع في الوقت ذاته.
هذا يتوافق مع ما تُظهره دراسات في علوم الأعصاب حول "شبكة الوضع الافتراضي" في الدماغ، وهي الشبكة التي تنشط عندما نقوم بمهام رتيبة. أثناء تحريك الإسفنجة على طبق متّسخ، يبدأ العقل في التجوّل الحر، فيربط أفكارًا مبعثرة، ويبتكر حلولًا، ويلتقط شرارات إلهام لا تأتي في الاجتماعات ولا خلف المكاتب.
وتشير الأبحاث الحديثة وفقاً لموقع " timesofindia" أيضا إلى فوائد بعيدة المدى فالأعمال المنزلية الروتينية، خصوصا لدى كبار السن، ترتبط بتحسن الذاكرة، وزيادة حجم المادة الرمادية في الدماغ، وتعزيز مناطق التفكير واتخاذ القرارات، فالنشاط البسيط المتكرر يعمل كنوع من إعادة ضبط للجهاز العصبي.
لذلك، فإن أبسط المهام المنزلية، كغسل الأطباق، قد تكون مفتاحا لإطلاق إبداعك. بينما تتحرك يداك تلقائيا بين الصحون والصابون، ينغمس عقلك في عالمه الداخلي، يعيد ترتيب الذكريات، يحل المشكلات، ويجمع الأفكار المتفرقة في رؤية واضحة. هذا هو الوقت الذي يكون فيه الدماغ في أوج قدرته الإبداعية، قبل أن تتشكل الحلول أو تولد الأفكار الجديدة.
الأعمال المنزلية العادية، التي قد تبدو روتينية أو مملة، تتحول في الواقع إلى أعظم محفزات العقل، فتمنحك مساحة للتأمل والابتكار، وتجعل من الحوض المتواضع منصة للإبداع وصفاء الذهن.
