منذ العصور القديمة وحتى اليوم، ظل القمر محطّ أنظار البشر، ليس لجماله الباهر في السماء فحسب، بل أيضاً لأسراره الغامضة التي يخفيها على سطحه. عبر القرون، لاحظ الفلكيون ومضات مفاجئة وضوءاً عابراً يظهر أحياناً على مناطق محددة من القمر، ليختفي بعد ثوانٍ أو دقائق دون أن يترك أثراً دائماً. تُعرف هذه الظواهر باسم الظواهر القمرية العابرة (TLPs)، وما زالت تحيّر العلماء حتى مع التقدم التكنولوجي الكبير في الرصد الفضائي، مثيرةً فضول البشر لمعرفة أسرار القمر العميقة.

تسعى الدراسات الحديثة إلى تفسير هذه الومضات الغامضة، بين احتمالات متعددة، تشمل اصطدام النيازك الصغيرة بسطح القمر، وانبعاث الغازات من باطنه، أو حتى تفاعلات الضوء مع الغبار القمري. كل هذه الاحتمالات تجعل من القمر ليس مجرد جارة سماوية جميلة، بل لغزا حيا يروي قصصًا عن النشاط الخفي الذي يجري على سطحه.

ما هي الظواهر القمرية العابرة؟

تشير الدراسات إلى أن الظواهر القمرية العابرة تشمل أي تغيّر مؤقت في مظهر سطح القمر، مثل ومضات ضوء قصيرة، توهجات ملوّنة، أو حتى سحب غبارية مضيئة. وقد سجّل الفلكيون أكثر من ألفي حالة منذ القرن السادس الميلادي وحتى عام 1994، بينما تشير بعض الملاحظات الحديثة إلى أن العدد أكبر بكثير، لكن صعوبة التوثيق تجعل تقديرها دقيقا أمرا صعبا. تستمر هذه الومضات عادة لثوانٍ قليلة، وبعضها يمتد لعدة دقائق أو ساعات، وفقا لموقع "livescience".

الأسباب المحتملة

1. اصطدام النيازك بالسطح

القمر لا يمتلك غلافًا جويًا يحميه من الصخور القادمة من الفضاء، لذلك فإن النيازك الصغيرة تصطدم مباشرة بسطحه، محدثة ومضات ضوئية قصيرة. أظهرت الدراسات الحديثة أن نيزكًا صغيرًا بحجم كرة البلياردو يمكن أن يخلق ومضة ضوء مرئية من الأرض باستخدام التلسكوبات المتطورة. وقد سجّل برنامج الرصد الأوروبي NELIOTA مئات هذه الومضات خلال سنوات، مؤكّدًا أن الاصطدامات النيزكية سبب رئيسي لعدد من هذه الظواهر.

2. انبعاث الغازات من باطن القمر

تفسّر فرضية أخرى ظهور هذه الومضات بأن القمر قد يُطلِق غازات مثل الرادون أو الأرغون من باطنه عبر شقوق أو زلازل قمرية. عند إطلاق هذه الغازات، قد تعكس الضوء أو تصدر توهجًا يمكن رصده من الأرض. وقد لوحظ أن بعض المناطق التي تتكرر فيها هذه الظواهر تتزامن مع أماكن محتملة لانبعاث الغازات.

3. تفاعل الضوء مع الغبار القمري

هناك فرضية أقل شهرة لكنها محل اهتمام تشير إلى أن الرياح الشمسية والجسيمات المشحونة قد تُثير الغبار القمري، مكوّنة سحبًا دقيقة تعكس الضوء بشكل متغير، محدثة توهجات مؤقتة. هذه الظاهرة قد تكون السبب وراء بعض المشاهدات الطويلة الأمد التي لا تتناسب مع اصطدام نيزكي أو انبعاث غازي مفاجئ.

لماذا تبقى الظاهرة غامضة؟

على الرغم من تطور التلسكوبات والتقنيات الحديثة، تبقى التوهجات القمرية مؤقتة وخاطفة، مما يجعل رصدها وتوثيقها تحديًا كبيرًا. العديد من المشاهدات القديمة اعتمدت على الملاحظات البصرية فقط، دون صور أو تسجيلات رقمية، ما يقلل من دقتها. وحتى الحالات الحديثة أحيانًا لم تُظهر تغييرات واضحة على السطح بعد التوهجات، ما يجعل من الصعب تحديد سببها بدقة.

أهمية دراسة هذه الظواهر

دراسة الظواهر القمرية العابرة لا تهدف فقط لحل لغز قديم، بل تحمل قيمة علمية كبيرة. فهي توفّر نافذة على النشاط الجيولوجي للقمر، بما في ذلك الانبعاثات الغازية والزلازل القمرية، كما تساعد على فهم معدل الاصطدامات النيزكية على سطحه، وهو أمر بالغ الأهمية لتخطيط بعثات مستقبلية وبناء قواعد قمرية. كذلك، فإن دراسة تأثير الرياح الشمسية والغبار على التوهجات القمرية تعزز فهمنا لتفاعلات الأجرام السماوية الصغيرة مع البيئة الفضائية.

تظل ومضات القمر الغامضة لغزا حيا، محفوفا بالتحديات العلمية. آلاف المشاهدات التاريخية والمعاصرة لم تقدم تفسيرا واحدا شاملا، إلا أن البحث المستمر يكشف تدريجيا عن النشاط الخفي على سطح أقرب جار سماوي لنا.