لطالما كان “الكراكن” كابوس البحارة على مدى قرون، وهو مخلوق ضخم قادر على سحب السفن بأكملها إلى أعماق المحيط. واليوم، يعلن العلماء أن هذا الوحش الأسطوري لم يكن مجرد خرافة، بل كان له أساس حقيقي في الطبيعة.

الكراكن، كما جاء في الأساطير النوردية منذ القرن الثالث عشر، يوصف بأنه وحش ضخم متعدد المخالب يتربص قبالة سواحل جرينلاند والنرويج. لعقود، اعتبر العلماء هذه القصص مجرد حكايات شعبية، حتى تمكن العالم الدنماركي يابتوس ستينستروب عام 1857 من وصف نوع حقيقي من الحبار العملاق يُدعى Architeuthis dux، الذي يبدو مطابقا للأسطورة تقريبا.

إلا أن الغموض استمر أكثر من قرن، إذ بقي هذا الحبار بعيدا عن أعين العلماء في بيئته الطبيعية. تغير الوضع في عام 2004، عندما التقط فريق ياباني أول صور لحبار عملاق حي بالقرب من جزر أوجاساوارا. وقد تم تحليل أحد مخالب العينة التي بلغ طولها 5.5 امتار، لتظهر مطابقته مع DNA الحبار بنسبة 99.7%. وفي عام 2012، جاء أول تسجيل فيديو يُظهر هذا المخلوق الضخم وهو يسبح في الأعماق، مؤكدا أن الكراكن كان حقيقيا بالفعل.

لكن ما الذي يجعل هذه المخلوقات ضخمة إلى هذا الحد؟ يوضح العلماء أن الحياة في أعماق المحيط تشبه العيش على جزيرة معزولة. الضغوط الهائلة، والظلام الدامس، وندرة الغذاء تجعل الجسم الكبير ميزة للبقاء، حيث يحافظ على الطاقة، يخزن الأكسجين لفترات أطول، ويقاوم الظروف القاسية بكفاءة أعلى.

الحبار العملاق يمكن أن يصل طوله إلى 13 مترا أو أكثر، وعيونه السوداء الضخمة تساعده على اكتشاف الفريسة أو تفادي المفترسين مثل حوت العنبر، عدوه الطبيعي الوحيد. وقد تم تأكيد الصراعات بين النوعين عبر الأدلة العلمية، مثل وجود اثار معارك بين الطرفين.

ورغم كل هذه الاكتشافات، يظل Architeuthis dux من أكثر الكائنات غموضا على الأرض. لا يعرف العلماء بعد كيفية تكاثره، أو مسارات هجرته، أو حتى مدة حياته. ويشير خبراء المحيطات إلى أن أكثر من 80% من قاع المحيطات لا يزال غير مستكشف، ما يجعل الأعماق البحرية أكثر غموضا من سطح القمر.

كل بعثة بحرية جديدة تكشف عن مفاجآت مذهلة، من مخلوقات شفافة إلى مفترسات مضيئة، لكنها لا تثير الخيال مثل الحبار العملاق، الذي أصبح تجسيدا حيا لأسطورة لطالما اعتبرت مستحيلة.

كما يقول البروفيسور كريج ماكلاين: “الخط الفاصل بين الأسطورة والواقع ليس حادًا كما نظن. أحيانًا، تكون الأساطير مجرد بيانات علمية قبل أن تلحق بها المعرفة”.

الكراكن، الذي كان يوصف بالمخالب الضخمة والخطر الداهم، تحول اليوم من خرافة إلى حقيقة علمية، ليذكرنا بأن أعماق المحيط لا تزال تحمل أسرارا مذهلة تنتظر من يكتشفها.