كشفت دراسة علمية حديثة عن أن "رقصة الاهتزاز" الشهيرة التي يؤديها نحل العسل، والتي تُستخدم تقليديا كوسيلة لإرشاد باقي أفراد السرب إلى مصادر الغذاء، تحتوي على مستوى من التعقيد الإدراكي يفوق ما كان معروفا سابقا، إذ لا تقتصر فقط على تحديد الاتجاه والمسافة، بل تشمل أيضا معلومات مكانية دقيقة عن الطريق والعوائق المحتملة في الرحلة.
الدراسة التي نُشرت في مجلة Current Biology أجراها فريق من الباحثين استخدموا تقنيات متقدمة مثل الرادار التوافقي لتتبع مسارات الطيران الدقيقة للنحل، وسعوا من خلالها إلى فهم أعمق لكيفية دمج النحل للذاكرة المكانية مع المعلومات التي يحصل عليها من الرقصة. وقد تبين أن هذه الرقصة ليست مجرد "إشارة" باتجاه معين، بل تمثل شكلا معقدا من التواصل يحمل توقعات مكانية عن معالم الطريق نفسه.
في التجارب، درّب الباحثون مجموعة من نحلات البحث على زيارة مغذٍّ يحتوي على محلول سكري وُضع شمال الخلية على طريق حصوي. وتم إطلاق النحل من ثلاثة مواقع مختلفة لمراقبة سلوكياته أثناء الطيران. وأظهرت النتائج أن النحل الذي تلقى "الرقصة" لم يتبع فقط المتجهات (الاتجاه والمسافة) التي تنقلها الرقصة، بل دمجها مع معرفته السابقة بعلامات مميزة في البيئة، ما يشير إلى وجود عملية إدراكية أكثر تعقيدا من مجرد اتباع إشارة.
ووفقا لبيان صادر عن الأكاديمية الصينية للعلوم، فإن غياب معالم مألوفة متوقعة على الطريق جعل سلوك البحث لدى النحل أكثر استكشافا، حيث طارت النحلات لمسافات أبعد وبمسارات أقل استقامة مقارنة بما يحدث عندما تكون تلك المعالم موجودة. ويُظهر ذلك أن النحل يكوّن توقعات مسبقة عمّا سيواجهه أثناء الرحلة، وهي قدرة كانت تُنسب سابقا إلى كائنات ذات أدمغة أكثر تطورا.
وأشار الباحثون إلى أن نتائجهم تؤكد أن المعلومات الاتجاهية التي تنقلها الرقصة تُدمج ضمن تمثيل مكاني يبنيه النحل من خلال خبراته السابقة، وأن هذا الدمج يحدث ضمن إطار مرجعي مشترك يسمح له بفهم الطريق بشكل شامل.
ووصف الفريق هذا الشكل من التواصل بأنه "متعدد الأبعاد" ويعتمد على "خريطة إدراكية" cognitive map تشبه إلى حد بعيد المفهوم الذي يستخدمه علماء الأعصاب لوصف الخرائط الذهنية لدى الثدييات.
وقال الباحث الرئيسي في الدراسة إن نتائجهم «تكشف عن مستوى أعلى من التعقيد الإدراكي في تواصل نحل العسل. فالنحل الذي يتبع رقصة الاهتزاز لا يلتزم بتعليمات الاتجاه بشكل أعمى، بل يدمجها مع خريطة مكانية للبيئة بناها خلال رحلات استكشافية سابقة، ما يمكّنه من تكوين توقعات دقيقة والملاحة بكفاءة أكبر».
وتفتح هذه النتائج آفاقا جديدة لفهم آليات الإدراك لدى الحشرات، وتشير إلى أن قدرات نحل العسل تتجاوز بكثير ما كان يُعتقد، ما قد يغير نظرتنا لطبيعة التواصل في عالم الحشرات وقدراتها الذهنية المعقدة.
