السرد البوليسي هو الأدب الذي يقوم على اللغز والتحقيق وكشف الغموض، بنيته الأساسية تبدأ بحدث غامض أو جريمة تُربك الشخصيات والقارئ معاً، وتتوالى الخيوط والدلائل، ليتحول النص إلى متاهة من الأسئلة، ينتظر في نهايتها لحظة الكشف التي تعيد النظام إلى العالم.. إنه الأدب الذي يضع العقل في مواجهة المجهول، ويحول القارئ إلى شريك في البحث لا متلقٍ سلبي..
هذا السرد ليس مجرد حكايات عن الجريمة، بل فن للعقل، فهو يدرب القارئ على التحليل وربط الأحداث، ويغريه بأن يشارك في فك الطلاسم، وهنا يكمن سر جاذبيته، إنه يرضي فضول الإنسان الفطري لمعرفة «من الفاعل؟ وكيف؟ ولماذا؟»، وهي أسئلة تمس جوهر وعينا بالعدالة والحقيقة..
النشأة
نشأ الأدب البوليسي في الغرب الحديث مع إدغار آلان بو، وشارلوك هولمز، وأغاثا كريستي، لكنه لم يقتصر على الترفيه، فكل جريمة في هذه النصوص هي مرآة لمخاوف المجتمع: الخيانة، الطمع، الغموض، انهيار الثقة.. ومع مرور الوقت، اتسع نطاقه ليشمل الرواية البوليسية السياسية، والجريمة النفسية، والبوليسي الفلسفي الذي لا يكتفي بالبحث عن القاتل، بل يسائل عن معنى العدالة ذاتها.
أما أهمية السرد البوليسي للإنسان، فبالنسبة إلى المراهقين، يقدم هذا الأدب بوابة إلى عالم القراءة، لأنه يقوم على التشويق والإثارة، وكثير من الأجيال العربية بدأت علاقتها بالكتب عبر قصص مثل: المغامرون الخمسة لمحمود سالم، وهو كاتب مصري رائد في الكتب البوليسية، كتبه كانت معروفة من بعد منتصف القرن العشرين، حيث زرعت حب القراءة لدى الناشئة، وربطت الخيال بالمنطق، وحرض عقولهم على التفكير النقدي، ومنحهم متعة «اللعب بالذكاء».. أما بالنسبة إلى الكبار، فالسرد البوليسي يتجاوز المتعة إلى التأمل في قضايا أعمق، مثل: من يقف وراء الجريمة؟ هل الشرّ فردي أم جماعي؟ كيف يعمل القانون؟ بل إن بعض الروايات البوليسية المعاصرة صارت أداة لفهم السياسة والفساد والسلطة، حيث تتحول الجريمة إلى استعارة عن مرض المجتمع.
في بدايات القرن العشرين وفي عالمنا العربي، كان الأدب البوليسي في طور التأسيس، بينما الغرب كان حقق نجاحاً جماهيرياً، فقامت الدور العربية للنشر بدورها بترجمة روايات أغاثا كريستي وكونان دويل.. فكان الانتشار واسعاً، حتى جاء كتّاب مثل نبيل فاروق ومحمود سالم ليعرفوا الأجيال به.. ثم بدأت محاولات أكثر نضجاً، حين صار «البوليسي» وسيلة لقراءة الواقع، ليوظف بعض الكُتاب التحقيق والجريمة كأدوات نقد اجتماعي.
تجارب محدودة
وفي دول الخليج العربي، لا تزال التجارب محدودة، لكن البيئة نفسها غنية بالمواد، حيث المدن المتسارعة، الجرائم الإلكترونية، تناقضات الحداثة والتقاليد. وفي الإمارات على وجه الخصوص، التي تتجاور المدينة الحديثة فيها البحر والذاكرة، يمكن أن يثمر السرد البوليسي عن نصوص تعكس قضايا الجريمة والعدالة والأمن والاغتراب، مع أن بعض المحاولات الرقمية والإصدارات الجديدة تشير إلى أن الجيل الشاب بدأ يستلهم هذا اللون من الكتابة.
في النهاية، السرد البوليسي ليس مجرد مطاردة للقاتل، بل مطاردة للحقيقة في أوسع صورها إنه يضع الإنسان أمام مرآة أسئلته: لماذا نرتكب الجريمة؟ وما حدود العدالة؟ وهل يمكن للعقل أن يفكك كل الألغاز فعلاً؟ بهذا المعنى، يبقى السرد البوليسي أدباً يُغري المراهقين بالدهشة، ويمنح الكبار وسيلة لتأمل الظل الكامن في الذات.
