في قرية هادئة من محافظة كوماموتو جنوب اليابان، يقف بناء صغير لكنه يثير ضجة عالمية، هذا المبنى الذي أُطلق عليه اسم "ليب إيرث" (LEAP Earth)، هو أول منزل في البلاد يُبنى باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد من مواد ترابية محلية — دون أي استخدام للخرسانة أو الفولاذ. إنه مشروع يصفه الخبراء بأنه ثورة هادئة في عالم البناء المستدام.
لطالما كانت الخرسانة أساس العمارة الحديثة، لكنها تأتي بثمن بيئي باهظ. فهي ثاني أكثر المواد استخداماً بعد الماء، ومسؤولة عن نحو 8% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالمياً، معظمها ناتج عن إنتاج الإسمنت.
في مواجهة هذه التحديات، لجأت شركة Leap Work اليابانية إلى حل بسيط في جوهره، لكنه مبتكر في تطبيقه وهو العودة إلى الأرض نفسها كمصدر للبناء.
باستخدام مزيج خاص من التراب، الجير، والألياف النباتية، طوّرت الشركة مادة يمكن طباعتها بطبقات دقيقة عبر ذراع روبوتية ضخمة تشكل الجدران الخارجية للمنزل. في الداخل، يدعم إطار خشبي خفيف الهيكل ويوفر ثباتًا إضافيًا. والنتيجة: منزل كامل الاستدامة لا يحتوي على إسمنت، لا في الجدران ولا حتى في الأساسات.
تشير تقديرات الشركة إلى أن هذا النهج يمكن أن يقلل انبعاثات الكربون المرتبطة بالبناء بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بالمباني التقليدية، بل ويتفوق في بعض الحالات على المباني الخشبية من حيث الكفاءة البيئية. والأهم أن المواد الترابية المستخدمة تُستخرج من الموقع نفسه، مما يُقلل من الانبعاثات الناتجة عن النقل ويُعزز مفهوم "العمارة المحلية".
لكن ما يجعل "ليب إيرث" أكثر إثارة ليس فقط استدامته، بل أيضًا مرونته التصميمية. فبفضل الطباعة ثلاثية الأبعاد، لم تعد الجدران ملزمة بالزوايا القائمة أو الخطوط المستقيمة. تنساب الجدران بانحناءات عضوية تحاكي تضاريس الأرض، وتتشابك الغرف بانسيابية تجعل المسكن جزءًا من الطبيعة المحيطة به. تقول الشركة عبر موقعها الرسمي: “لطالما حُصرت الأشكال القياسية في تصميم المنازل، لكن الطباعة ثلاثية الأبعاد تكسر هذا القيد، وفقاً لـ "dailygalaxy".
هذا التصميم ليس جماليا فقط؛ بل هو عملي ومتكيف مع المناخ الياباني. فالجدران الترابية تتميز بكتلتها الحرارية، ما يجعلها قادرة على تخزين البرودة والحرارة وتعديلها وفقًا للفصول، كما تمنحها مرونة طبيعية في مقاومة الزلازل — وهو عامل حاسم في بلد مثل اليابان.
ورغم الطبيعة التجريبية للمشروع، فإن منزل "ليب إيرث" يلبي بالفعل معايير قانون البناء الياباني، بما في ذلك مقاومة الزلازل والرطوبة، ما يجعله من أوائل الهياكل المطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد المعتمدة رسميًا للاستخدام السكني في واحدة من أكثر بيئات البناء صرامة في العالم.
من ناحية أخرى، تواجه اليابان أزمة متزايدة في نقص العمالة ضمن قطاع البناء، بسبب شيخوخة السكان وتراجع عدد العمال المهرة. وهنا يأتي المشروع كحل ذكي؛ إذ تعتمد “ليب وورك” على الرقمنة والأتمتة لتقليل الحاجة إلى العمالة الميدانية، ما يجعل العملية أكثر كفاءة وأقل تكلفة، مع الحفاظ على الطابع المحلي والإبداع المعماري.
ولا يتوقف طموح الشركة عند حدود اليابان، فهي تدرس بالفعل تطبيقات جديدة للتقنية في بناء فنادق صغيرة، محلات تجارية، وملاجئ للطوارئ، بل وحتى مساكن خارج كوكب الأرض. تستند هذه الرؤية إلى أبحاث وكالة ناسا حول استخدام التربة المحلية (الريغوليث) في بناء هياكل على القمر والمريخ عبر الطباعة ثلاثية الأبعاد، ما يجعل فكرة “المنزل الأرضي” امتدادًا طبيعيًا لمفهوم الحياة المستدامة المستقبلية.
ورغم أن المنزل الحالي لا يتعدى كونه نموذجا أوليا من طابق واحد مزودا بألواح شمسية وبطاريات "تيسلا باور وول"، إلا أن صداه العالمي تجاوز بكثير حجمه المتواضع. فالفكرة في جوهرها تُعيد طرح سؤال جوهري: كيف نبني؟ وممَّ نبني؟ ولمن نبني؟
بدأت جامعات ومؤسسات تصميم في أوروبا والولايات المتحدة بدراسة المشروع عن كثب. ففي جامعة تكساس إيه آند إم، يطور باحثون مواد مشابهة للطباعة الترابية، بينما تعمل شركات مثل ناجامي الإسبانية وهاسل ستوديو البريطانية على استكشاف استخدام البلاستيك المُعاد تدويره لبناء ملاجئ حضرية مؤقتة.
لا يمثل "ليب إيرث" مجرد تجربة معمارية لافتة، بل تحول فلسفي في الطريقة التي ننظر بها إلى العمارة. فبينما يسعى العالم إلى خفض انبعاثات المباني بنسبة 40% بحلول عام 2030، يأتي هذا النموذج الياباني ليذكّرنا بأن الحلول العظيمة قد تكون مدفونة تحت أقدامنا — في التراب نفسه.
