يندرج كتاب نظرات في الشعر العربي، لمؤلفه أحمد بن سليمان اللهيب، تحت القراءات النقدية التي لا تبالي بحكم القيمة بقدر اهتمامها بتمثُّل قضية التذوق، متخذاً من الومضات الفكرية اللافتة في نصوص التراث الشعري الواسع محاور تأمُّلية تكشف الاشتراك والتباين في عوالم الشعراء العرب المختلفة.
ويتوزع القسم الأول من الكتاب على عناوين شائقة تثير ذاكرة القارئ الجيد للشعر العربي، بما تحمله من تراكيب مجازية مقتبسة من سياقات قديمة لا تزال تنضح بشاعريتها المشرقة، جامعةً شتات تجارب إبداعية ضمن إحساس نفسي واحد يمثل «المعاني المطروحة في الطريق» وفق التعبير الشهير للجاحظ.
فتحت عنوان «لو كان لي قلبان»، يتناول الكاتب فكرة الأماني والأحلام بوصفها أحد أهم المكونات الشعورية للإنسان التي يتجاوز من خلالها الواقع بغض النظر عن جماله وقبحه، منطلقاً من خلفية دينية تستند إلى قراءة المفسرين لآية من القرآن الكريم، إذ سعى فريق من الشعراء إلى تجاوز هذه الاستحالة شعرياً، بينما وظَّفها فريق آخر حسب قدرته الفنية والغرض الشعري المطروق.
وينتقل المؤلف إلى فكرة شكَّل حضورها أمراً واضحاً في الشعر العربي قديمه وحديثه، هي فكرة «شهيد الحب» التي كان لتمازج الثقافات أثر في تعميقها، مصوِّرةً كيف يبلى الإنسان بعشقه، فيكون فيه منحدر قواه وسبيل هلاكه وطريقه إلى الموت، فيغدو أثراً بعد عين وخبراً بعد ذكر..
وأغرى هذا المعنى فئة من شعراء العربية القدماء، كجميل بثينة الذي يبدو أنه أول من شرع التعبير عنه، ليتلقفه منه بشار بن برد الذي أكده ورسمه طريقاً إنسانياً عاماً، ثم يأتي المتنبي من بعدهما مقرراً هذا المسلك وأن من يسلكه جدير بالشهادة، كما لم يسلم من الولع به في العصر الحديث نزار قباني وغازي القصيبي.. وغيرهما.
ومن الأفكار التي جرت مثلاً سائراً نطقت به العرب واستعارةً تمثيليةً من أقدم الاستعارات، فكرة «القابض على الماء»، وهي تجسِّد وقع الحسرة والندامة في القلوب الذي لا ينجلي أبداً ولا يزول مع الزمن، وطوَّرها الأعمى التطيلي في شعره، ناقلاً المعنى إلى غرض آخر يصوِّر من خلاله مشاعره تجاه من له الحكم عليه، ويبين عدم رضاه بحكمه..
وأن قبوله له إنما جاء على مضض، بينما حوَّر أبو دلامة الأسدي الدلالة في غرض الهجاء، جاعلاً الرياح في موضع الماء صورةً للمواعيد الواهية التي تصدر ممن لا يفي بها. وفي القسم الثاني من الكتاب، يركز أحمد اللهيب نظراته في تجربة أبي الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، مقدِّماً قراءة تحليلية لقصيدة «ملومُكما يجلُّ عن الملامِ»..
وبالرغم من أن المدخل الأسلوبي إلى النص الشعري يتأتى للناقد بواسطة فهم اللغة، فإنه يحاول أن يلج إلى أغوار القصيدة من أبواب متفرقة، متوسلاً حيناً بالموقف التاريخي الذي يتمثل في رغبة المتنبي في السفر عن مصر والبعد عن كافور..
وفي المرض (الحمى) الذي أصاب الشاعر في طريق سفره، فيرى أن هذين الموقفين يولِّدان داخل القصيدة روحاً درامية تأتي على شكل حوارات وخطاب موجَّه، كما يشكِّل الإيقاع الموسيقي مدخلاً آخر إلى النص، إذ يتواءم مع الحالة النفسية التي مرَّ بها المتنبي، مُشعراً القارئ بالانفعال الذي هز كيان نفسه وحرَّك وجدانه، ومؤدياً إلى تحقيق اللذة العقلية.
وينطلق المؤلف بعدها إلى آفاق أرحب في تجربة المتنبي الفسيحة، موسعاً مجال رؤيته النقدية لمجموعة من الظواهر الفلسفية التي ميَّزت شعره ووسمته بصبغة ذات مذاق فريد، فيتطرق إلى فلسفة الظن التي تتكشف لدى المتنبي في مدحه للخلفاء والقادة الذين يخلع عليهم صفات مثل سعة النظر ورجاحة الرأي وحسن التفكير.
كما تتجسد الفلسفة ذاتها في غرض الحكمة، حيث تبرز العلاقة بين سوء الظن وسوء الفعل، معترفاً بأن فلسفة الظن في شعر المتنبي تضيق الصفحات بتناولها على نحو منصف، لكنه حرص على أن يصطفي من الأبيات أعمقها وأكثرها كشفاً للظاهرة.
ويناقش المؤلف فلسفة الحظ التي يعوِّل عليها العامة من الناس في كثير من الأحيان، إلى درجةٍ يُصاب معها الإنسان بالتقاعس عن أداء الواجب المنوط به، حتى يصبح حبيس انتظار الأحلام والأوهام المبنية على ضربة الحظ المرتقبة، ملاحظاً أن هذا التصور ربما يخالف النتاج الشعري في الأدب العربي الذي يجعل سعد الطالع سبباً قوياً في نيل المطالب وتجاوز الأزمات، ويسلط الضوء على هذا التصور عند المتنبي الذي يجده جلياً في غرض المدح حيث يجعل حظ الممدوح ميموناً دائماً..
وكذلك في غرض الهموم الذاتية، حيث يبدو الاضطراب في تعويله على الحظ بين السعد والنحس، مقرراً أن المتنبي استطاع في الدلالتين أن يثري مفهوم الحظ بتجربته وطاقته الشعرية، وأن يُكسب أبياته سيرورة تجوب الآفاق، وتقطع الفيافي والأنفاق.
فيما يتعلق بفلسفة السر في تجربة أبي الطيب الشعرية، يلمح الناقد في بحثه محاولة لمناقضة المفهوم المتبادر للذهن في عملية إفشاء السر، إذ وظَّفه الشاعر في غرض المدح، متخذاً منه سبيلاً للحديث عن كرم الممدوح وعظيم بذله، وهو الأمر الذي يوحي إلى الشاعر المعاصر أنه يستطيع تجاوز الدلالة الراسخة في العقل العربي، وأن يأتي بنقيضها في أغراض شعرية كثيرة.
ويبدو المتنبي، كما تُظهره الدراسة، شاعراً يجنح إلى الطبع والسجية، فهو لا تغرُّه أدوات التجميل ولا الزينة التي تتكلفها المرأة الحضرية، بينما تستهويه البدوية بحسنها الخِلْقي الذي لا صنعة فيه، متعجباً من حال العاذل الذي يريد من العاشق أن ينسى أحبابه وهو لا يد له في ذلك، لأن قلبه طُبع على هذه السجية.
ولم يكن لقب المتنبي، حسب رؤية مؤلف الكتاب، إلا بسبب ما عاناه الشاعر من قسوة الغربة التي دفعته إلى أن يتجاوز بشريته المحدودة بما يدعيه لذاته من صفات في فخرياته، رافعاً نفسه إلى مقام الأنبياء، ومتخطياً مفهوم الغربة الحرفي الذي يعني الانتقال من بلد الأهل والأحباب إلى بلد يكون فيه الإنسان وحيداً بلا صاحب، ولم يكتفِ أبو الطيب بالتغني بهذه الغربة التي مثَّلت له هماً ذاتياً يخالج مشاعره، بل شاطر الآخرين إحساسهم بغربتهم، مصوِّراً مشاعر بني كلاب عندما غزاهم سيف الدولة، ومعبِّراً عن غربة الأموات في قبورهم.
