نشر توماس دي كوينسي في بداية القرن التاسع عشر، كتاباً بعنوان «اعترافات مدمن أفيون انجليزي»، واعتُبر هذا النص قاسياً، كونه يحمل سمات الفترة الرومانسية.
فهو يصف ضياع الكاتب في دوامة الإدمان حتى أنقذته محبوبته ثم تابع هو إنقاذ نفسه. وكان نص توماس دي كوينسي من القوة والتأثير، بحيث استولى عليه أو اقتبس منه العديد من شعراء وأدباء الفترة الرومانسية ليعبر كل واحد عن تجربة خيالية مؤلمة مرّ بها، ومنهم:
شارل بودلير الذي استوحى منه نصه الجميل (الفردوس الاصطناعي )، لكن الأدباء لم يكونوا وحدهم من استوحى من الأدب. فهناك أيضاً هكتور برليوز، الموسيقي الفرنسي البارز(1803 - 1869)، الذي حول نصاً للشاعر دي موسيه الى واحدة من أهم سيمفونيات الفترة الرومانسية التي ظهرت في الربع الثاني من القرن التاسع عشر..
وخلّدت اسمه وهي «السيمفونية الخيالية»، التي تحكي قصة الأمل والأمل.. كما إنها تعتبر علمياً القاعدة الأساسية لنمط من الموسيقى السيمفونية يُسمى «الموسيقى البرامجية»، أي الموسيقى ذات الموضوع الذي تدور حوله. وكان ذلك تجديداً في الموسيقى السيمفونية التي كانت تجريدية في مجال تعبيرها عن المعنى والموضوع.
برليوز عاشقاً
كتب برليوز هذا العمل عام 1830 في العام نفسه الذي وقعت فيه الثورة الفرنسية الجديدة، آنذاك، التي كرس برليوز لها سيمفونيته «الجنائزية» بعد ذلك بعشرة أعوام. إذ استوحى فكرة السيمفونية الخيالية من أحداث حقيقية في حياته، فهو التقى الممثلة الايرلندية هارييت سميثسون وأغرم بها وكانت «السيمفونية الخيالية» من آثار هذا الحب الجارف وأول أعماله الكبيرة وسبب شهرته.
وأدى النجاح الكبير الذي حققته هذه السيمفونية الخيالية فور تقديمها عام 1830 إلى نيله «جائزة روما الكبرى» للتأليف، وهو نجح في وصف قصة حبه لهارييت سميثون، وعبر عن يأسه من أن تبادله الشعور نفسه، فخلق شخصية فنان رمزية تمثل شخصية برليوز الداخلية وخيالاته.
ووضع الكثير من المعاني العاطفية والفلسفية العميقة داخل حركات هذه السيمفونية، التي تعتبر من أبرز أعماله وأولها في المجال السيمفوني. فهي واحدة من ثلاث سيمفونيات..
ولم يكتب برليوز سواها طوال حياته، ثم أعقبها بـ:«السيمفونية الجنائزية والانتصارية» ثم «السيمفونية الدرامية». وهذه الأخيرة عبارة عن قطعة سيمفونية مستوحاة مباشرة من مسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير، الذي سيكون ذا مكانة كبيرة في بقية أعمال برليوز وحياته.
تطور
حملت «السيمفونية الخيالية»، أهم مراحل تطور الموسيقى السيمفونية بسبب التوزيع الأوركسترالي المميز الذي استخدمه برليوز، واستخدامه الخاص لمفهوم «اللحن الدال»، وهو لحن واضح يتكرر ويجمع بين كافة الحركات. وتكونت السيمفونية من خمس حركات خلافاً لما كان متبعاً في هندسة السيمفونية التي كانت مكونة سابقاً من أربع حركات.
ومن جهة ثانية، فالسيمفونية تحمل عنواناً فرعياً هو «مراحل في حياة فنان».
أحلام تأملية وعواطف
الحركة الأولى يعبر فيها المؤلف عن لقاء الفنان لمحبوبته للمرة الأولى والوقوع في حبها، فهي تصور في بدايتها الفنان في حاله قلق فكري وهبوط نفسي، من دون أن يعرف أن لهذا علة، حتى يرى الحبيبة في صورة اللحن الدال.
يلتقي الفنان، في الحركة الثانية، بحبيبته في أمسية راقصة وعلى أنغام الفالس يبدأ خيال المؤلف بالتفكير بمحبوبته، بعيداً عن كل الناس في الحفلة، تقطعها الفكرة المستحوذة فيما يشبه الوداع بين الحبيبين.
الحركة الثالثة
في السهول (الريف)، يتجول الفنان مساءً في الريف. وينصت لصوت ناي ( الفلوت ) أحد الرعاة. فيرد عليه راعٍ آخر ويشعر بالغبطة والسعادة ويبتسم له الأمل ولكن الفكرة المستحوذة تمر بخاطره فيخفق قلبه. ويتساءل ماذا لو كانت غير وفيه له ؟!
ويعود صوت الفلوت (الناي)، إلى لحنه وينتظر رد الراعي الآخر. فلا يجيب ويكتشف أن محبوبته نسيته وأنه لن تأتي وسيظل وحيداً إلى الأبد، فتغيب الشمس ويعم السكون.
مارش الإعدام
يبدأ المؤلف أجواء العمل، ومع الحركة الرابعة، برؤية الفنان أحلام عن قتله لمحبوبته والحكم عليه بالإعدام وكيف يساق نحو المقصلة على إيقاع مارش كابوسي يزداد رهبة ووحشة. ثم يخفت على وقع أقدام، فتمر الفكرة الدالة بخاطره كآخر ذكرى للحب في حياته، إلى أن نسمع ضربة النصل.
الحركة الخامسة
«حلم ليلة سبت الساحرات». في هذه المرحلة من العمل، نرى الفنان مع السحرة والأشباح والحيوانات الممسوخة في مقبرة يشارك في جنازة الذي نفذ فيه حكم الإعدام والمحكوم عليهم بالعذاب الأبدي، حيث بدأ بتخيل وجه محبوبته وقد تحولت إلى مخلوق شرير يلاحقه، وتنتهي الحركة بمشهد مروع يعبر عن خلود المؤلف في العذاب الأبدي.
إذا ما تفحصنا العناوين التي وضعها برليوز لأقسام السيمفونية الخمسة: حلم وشغف - حفلة راقصة - مشهد في الحقول - طريق المقصلة ..
- وحلم ليلة سبت، سنجد أن علاقة كبيرة للفكر الموسيقي الأدبي بمناخ الفترة الرومانسية القائم على الأحلام الفكرية الروحية، إذ كانت خيالية الحلم والألم والعلاقة مع الطبيعة، تشكل عنصراً أساسياً في البحث الدائم عن الذات فيبدو طغيان البعد الذاتي على الموسيقى هو عمق التجديد في هذه الفترة الموسيقية. فكل صور المحبوبة على مدار السيمفونية هي مرآة الألم والأمل، هي الموت والخلاص ووسيلة العثور على الذات.
حمل هذا العمل الكثير من الجمال والتجدد، حتى إن كثيراً من الموسيقيين يؤكد أن في صفحة واحدة من «السيمفونية الخيالية»، ما يعادل ما في سيمفونيات متكاملة لغير برليوز، لأن مفهوم «السيمفونية ذات البرنامج» تبلور في هذا العمل، وولد مفهوم «القصيدة السيمفونية» الذي انتشر كثيراً بعد برليوز ووصل الى ذروته مع ريمسكي - كورساكوف في «شهرزاد» ومع ريتشارد شترواس في عمله «هكذا تكلم زرداشت».
خالدة
حضرت هارييت سميثسون العرض الأول لهذه السيمفونية وأعجبتها كثيراً، مما أدّى إلى زواجها من برليوز إنهاءً لمعاناته التي قدمت للجمهور عملاً متميزاً، إلا أنه بعد مرور بضع سنين، انفصلا عن بعضهما. لكن هذه السيمفونية بقيت خالدة عبر السنين.
في السينما
1942 استغلت موسيقى هذه السيمفونية في الكثير من الأفلام. إذ استخدمها
العديد من المخرجين العالميين في أفلامهم السينمائية. فكان الفيلم
الشهير الذي حمل اسم السيفونية نفسها، للمخرج كريستيان جاك.
1980 فيلم «ذي شايننغ»، للمخرج الأميركي ستانلي كوبريك.
1991 فيلم«سليبينغ ويذ ذي إينيمي»، للمخرج جوزيف روبين.
1999 الفيلم الفرنسي «لوس باسيجيرس»، للمخرج
جان كلود جوييه عام 1999.
في التشكيل
1912 لوحة الرسام الهولندي توماس هالانغر.
1957 ظهر الكثير من اللوحات التي تجسد مشاهد من السيمفونية الخيالية، مثل لوحة للفنانة شارلوتا ايدوردز.
1972 لوحة الرسامة الكوبية مارسيلا أكون.
