بمهارة عالية يغلفها الإبداع والتميز، تمكن الصحافي والناقد المسرحي ظافر جلود، من توثيق حياة الكاتب والمسرحي الراحل سالم الحتاوي (1963 - 2009)، في كتاب «سالم الحتاوي من النبش في الماضي.. إلى الواقع»، مسجلاً بذلك مشاركته الأولى في سلسلة «أعلام من الإمارات» الصادرة عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية..
ومحققاً بصمة وفاء تجاه الحتاوي الذي لطالما أبهره بالنضج الفكري والفني لأعماله.. إلى جانب انتمائه الوطني. ويرى جلود في حواره مع (بيان الكتب)، أن تحفيز المؤلف العربي مادياً، مسألة تتطلب اهتماماً أكبر من المؤسسات الثقافية، لا سيما وأن توثيق حياة عمالقة الفكر والأدب، يتطلب بحثاً واستقصاء لا يستهان بهما.
ميثولوجيا رائعة
الكتابة عن الراحل سالم الحتاوي واحدة من المحطات الفريدة في مسيرة ظافر جلود، لا سيما وان هناك ذكريات عديدة جمعت بينهما، وفي هذا الإطار، يقول جلود: بالأمس القريب كنت جالساً بقربه يحدثني عن همومه ومشاريعه..
حيث كانت هناك جلسة حوارية أقدم فيها عرضاً نقدياً عن مسرحيته التي قدمت ضمن مهرجان مسرح الطفل «ياسمين والمارد الشرير» لفرقة مسرح دبي الشعبي، برعاية هيئة دبي للثقافة والفنون- مجلس دبي الثقافي سابقا، والمسرحية من تأليفه وإخراج الفنان محمد سعيد الذي كان يشاركنا المنصة..
وأذكر أنني كنت أتحدث عن هذه الميثولوجيا الرائعة التي تناولها من عمق تراثنا العربي بصياغة أشّرت إلى قدرته على المحاكاة. ولا غريب في ذلك والراحل الحتاوي ولد وعاش في حارة شعبية في دبي، وبطبيعة الحال فإن طقوسها وحكاياتها مملوءة بأشكال وغرائب موروثة من الميثولوجيا الشعبية الغائرة في أعماق سكانها..
وهذا الفعل المبكر من الأهازيج والحكايات كان يأخذ منه وقتاً للتأمل والتفكير. فكان زاده اليومي في المتابعة والترصد خاصة في حكايات الجدات، وبالذات جدته التي أثرت في تكوين شخصيته. ومن ثم الشخصيات التي توالت في أعماله المسرحية.
الأسلوب الحتاوي
ويتابع جلود : أكثر ما كان يلفتني في أعمال الحتاوي اهتمامه بالمعتقدات الخرافية للمجتمع، وكيف أن هذه المعتقدات تضر بحياة الناس، وينبغي التخلي عنها، ففي مسرحية «الياثوم» تدخل «أم صقر» العمياء في صراع طويل مع الجنية «روية»، التي كانت قد قضت على زوجها وأبنائها، ولم يتبقِ لها سوى ابنها البكر صقر، الذي اتخذته تلك الجنية زوجاً لها، وأصبح مخبولاً ذاهلاً، ما اضطر عمه إلى إلغاء زواجه من ابنته.
نتاج غزير
كتب الحتاوي للمسرح أكثر من 30 عملاً مسرحياً، منها: عرج السواحل، مرادية، الياثوم، ليلة زفاف، النخاس. وللتلفزيون كتب عشرة مسلسلات تلفزيونية، منها : بنت الشمار، بقايا حلم، آخر أيام العمر، الكفن، غلطة عمر، وجه آخر، آخر المشوار. وذلك إضافة إلى فيلمين قصيرين وعدد من المسلسلات الإذاعية..
ويقول ظافر جلود: يعد سالم الحتاوي من أبرز المؤلفين المسرحيين في الدولة، وأكثرهم إنتاجاً وأوفرهم حظاً في تجسيد مسرحياته على خشبة المسرح، فمنذ ظهوره على الساحة المسرحية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بقي الراحل الأكثر إنتاجاً وتواصلاً مع الفرق المسرحية في الإمارات.
رأي
وحول ما إذا كان التحفيز المادي الذي تلقاه من مؤسسة العويس الثقافية أخيرا، قد شجعه على الكتابة عن الراحل سالم الحتاوي، وتحمل أعباء عمله الصحفي في مجلة «جواهر» الثقافية الشعرية التابعة لدار الصدى للصحافة والنشر، أوضح جلود أنه كتب عن الحتاوي وفاء له..
وقال: يحسب لمؤسسة العويس الثقافية، موقفها الداعم للثقافة وحرصها على توثيق حياة الأعلام الذين أثروا الحياة في الإمارات، بهدف الاعتزاز بهم وبإنجازاتهم وتجاربهم، وبالنسبة إلي كانت مهمة الكتابة عن الحتاوي شخصية للغاية. واستغرقت عاماً كاملاً لإعداد الكتاب..
حيث كتبت عنه حباً فيه ووفاء له، خاصة وأن علاقتي معه امتدت لأكثر من 18 عاماً. أما فيما يتعلق بالتحفيز المادي، فأنا أدعو جميع المؤسسات الثقافية إلى عدم الاستهتار بهذا الجانب المهم، لأنه يؤثر على همة المؤلف في البحث والاستقصاء والغوص في أعماق التفاصيل.
ويلفت جلود إلى أهمية الكتابة عن الأعلام الأحياء : كم هو جميل أن يُكرم الأحياء بعمل كتب عنهم، ولعل وجودهم على قيد الحياة يساعد على رفع مستوى الدقة في تناول حياتهم وإنجازاتهم، ويعطي تلك الكتب قيمة معنوية إضافية.
تحرك سريع
يشدد جلود على ضرورة تحرك المؤسسات الثقافية نحو التفكر في كيفية الوصول إلى الشباب، وكيفية إيصال نتاجها الثقافي إليهم: مواكبة التطور التكنولوجي أمر لا بد منه، لا سيما وأن الدور الذي تلعبه التقنيات العصرية الحديثة إلى جانب تعاظم دور شبكات التواصل الاجتماعي، يتطلب التفكير بالنسخ الإلكترونية التي ربما تشجع الشباب والأجيال الجديدة للاطلاع على جهود المؤلفين ودور النشر، في أي زمان ومكان.
بطاقة
ظافر جلود، صحافي وناقد مسرحي. وهو باحث متخصص في الشؤون الأدبية والثقافية والفنية المسرحية. كما أنه عضو نقابة الصحفيين العراقيين. أخرج العديد من المسرحيات وشارك في مهرجانات السينما والمسرح العالمي. صدر له عدة كتب، من بينها: »التجوال في المسرح العراقي – مسرح المدن- 1985. إضافة إلى كتاب «سنوات من الإبداع، مبدعون من الخليج – عن ندوة الثقافة والعلوم بدبي 2014».
محطات وشهادات تروي سيرة الراحل سالم الحتاوي
يسلط الكتاب الضوء على حياة وأعمال الكاتب والمؤلف المسرحي الإماراتي سالم الحتاوي (48 عاماً)، الذي فقدت الدولة برحيله، واحداً من كتابها المسرحيين الذين يعدون من أغزر كتاب المسرح في الإمارات، وأكثرهم إنتاجاً وتنويعاً في مواضيعه المسرحية والدرامية التي أثمرت حصاداً لامعاً من التقديرات، والحافلة بالجوائز والإشادات والتنويهات النقدية والاحتفائية.
واجتهد الإعلامي والمؤلف ظافر جلود في «سالم الحتاوي من النبش في الماضي.. إلى الواقع»، فوثق حياة هذه القامة المحلية والموهبة الفنية الخالدة، بما فيها من محطات هامة وتفاصيل شيقة سواء في المسرح أو التلفزيون، كما جمع شهادات نخبة من المثقفين والأدباء والمؤلفين والممثلين في شخصية الحتاوي، وسلط الضوء على أبرز إطلالاته الإعلامية في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية.
أحلام مسعود
يرصد الكتاب تجارب وأعمال الحتاوي، مبينا أنه ساهم في إثراء الحركة المسرحية المحلية، منذ أواسط التسعينيات من القرن الماضي، كما كتب للتلفزيون أعمالاً لا تزال حاضرة في ذاكرة مشاهدي الدراما الرمضانية، مثل: «بنت الشمار» و«الكفن» و«آخر أيام العمر». وكانت له مشاركات مميزة في مهرجانات مسرح الطفل ومسرح الشباب والأفلام الروائية القصيرة.
ويشرح جلود أنه ومنذ مسرحيته الأولى «أحلام مسعود» التي قدمها لمهرجان أيام الشارقة المسرحية عام 1994، أفصح الحتاوي عن موهبته المبكرة، وقدراته التخيلية في صياغة حالة مسرحية تمزج بين النقد الاجتماعي وجماليات الحوار المسرحي والبناء الدرامي، وكان فوز مسرحية : أحلام مسعود« بجائزة أفضل نص مسرحي في تلك الدورة، بمثابة المفاجأة المدهشة.
حكايات إنسانية
يشير الكتاب إلى أن الحتاوي سعى بعد ذلك، إلى تطوير آليات الكتابة لديه، وتملكه الافتتان بهاجس التأليف المسرحي، حيث استمر هذا الهاجس في التوسع والتشعب والإيغال نحو الموروث الشعبي والحكايات الإنسانية البعيدة والحافلة بالألوان والظلال، التي يمكن أن تنعكس على الحاضر وتحاور إشكالاته وتعقيداته الراهنة.
عروض نخبوية
يؤكد الكتاب أن الحتاوي حاول توسيع قاعدة الجمهور المسرحي وتناول مسرحيات اجتماعية نقل فيها المسرحية من العروض النخبوية إلى الجمهور العام، بعد أن صارت المسرحيات تكتب للمهرجانات فقط، ومن بين إبداعاتها التي جسدت ذلك : »جنون البشر، دور فيها يا الشمالي، هود يا أهل البيت مراديه، جنة ياقوت، كل الناس يريدون...«.
ولأن الحتاوي حاول طرق أبواب التجريب في محاولة اللعب على المضمون في أشكال مختلفة تنوعت بين الأحلام والكوابيس، وأحياناً العبث، رأى البعض، أن الحتاوي أراد من مجموعة نصوص أن تكون مختلفة..
وحاول أكثر من مخرج إخراج مسرحية واحدة له، بل إن بعضها لم ير النور بسبب عدم استيعاب ما قاله الحتاوي: »إنها زجاجة فارغة، زمزمية، زهرة، حكاية رأس جسد، الجنرال، ترنيمة الليلة الأخيرة، النخاس، خلخال«.
الماضي والهوية
يوضح جلود في كتابه أنه يشير كثير من الباحثين إلى أن كتابات سالم الحتاوي المسرحية، امتداد إلى تركيبة بنيته الثقافية والمكانية. فهو، وإن درس في أميركا، وعاش فيها برهة ليست بالقصيرة، فإنه تمسك بتلك البدوية التي أطلق منها شرارة التوجس والتحذير من محاولة تهميش الواقع والمكان والتغيير في بنية التركيب الاجتماعية. وهذا التحذير بدا واضحاً في أعماله..
ومن بينها: مسرحية »جنة ياقوت« التي كتبها في نهاية عام 2006، حول رجل »ياقوت« يتعرض لضغوط عديدة كي يبيع منزله المتواضع، المحاصر بالأبراج والمباني الشاهقة من كل الاتجاهات، لكنه يتمسك بالعيش فيه، لأنه يحمل ذكريات ماضيه وهويته، في الوقت ذاته.
