الحديث مع محمد صالح بداه العوضي، حديث متنوع تنوع ثقافة الرجل، الشغوف بعلم الاجتماع والعلاقات العامة، والمسكون بدور هذا العلم في المعارف الإنسانية، أصدر مؤخراً كتابه «الرماية بالكلمات»، الذي ضمنه خلاصة تجارب وأفكار حول المجتمع والحياة جاءت كلسعات اجتماعية نفذت في الصميم، «بيان الكتب» التقى بداه العوضي، الكاتب والإعلامي والخبير الاجتماعي، فكان الحوار التالي، عن إصداراته ودور علم الاجتماع في المؤسسة الاجتماعية ومسارات التحول الثقافية والفكرية وغيرها..

الكتابة هوية

كلمة في البداية عن محمد صالح بداه العوضي؛ الباحث الاجتماعي، العسكري ورجل الدولة، الكاتب، الإعلامي، الإنسان؟

أنا من مواليد عام 1955 متزوج وأب لأربعة أبناء، تخرجت من كلية الخدمة الاجتماعية 1980 جامعة حلوان، إنسان بسيط وعصامي كنت أعمل في فترة العطلة الصيفية المدرسية في عدة جهات حكومية وخاصة، فاكتسبت الخبرة والدراسة مبكراً ودرست في مدارس دبي وعجمان والشارقة وأم القيوين.

بدأت القراءة والكتابة منذ الصغر وربما عمري لم يتجاوز (12 سنة) وقرأت معظم الروايات والقصص العالمية والعربية، وقراءاتي متنوعة في جميع المجالات بعدد خمسة آلاف كتاب من مختلف الأحجام، وأملك مكتبة في بيتي، وبها مجموعة كتب، جمعتها عبر سنين من الزمن، وجل اهتماماتي اليومية بين القراءة والكتابة ولا يوجد لدي وقت فراغ، وربما هذه مشكلة الكثيرين في الجيل الحالي، وأنا على يقين تام بأنه بالقراءة والكتابة نستطيع أن نطور وننمي ملكات وقدرات ومواهب الشباب العربي، بل نقضي على كثير من السلوكيات المرفوضة بالقراءة والكتابة، ولكن مع كثير من الدعم والتشجيع والصبر، والبداية الحقيقية لعلاقتي مع الكتابة بدأت في مجلات «الحائط المدرسية»، ويعود الفضل في ذلك الى مدرسي الأوائل في المدرسة، كما نشر لي عمود «منطلق» في الصحف المحلية والخليجية والعربية منذ عام 1980، وعلى ما أذكر نشر لي عام 1981 أول موضوع بعنوان «كيف نفهم الاختلاط» ثم ثاني مقال بعنوان «التعاون» والثالث «الصديق الوفي كالعنقاء»، فالقراءة عندي متعة والكتابة هوية وقلمي خير رفيق للمجتمع.

أول وآخر وظيفة لي كانت في وزارة الداخلية، وقد ساعدني تخصصي العلمي في وظيفتي المهنية وخاصة أن بعض الأعمال التي أقوم بها قريبة من التخصص، وقدر الاستطاعة قدمتُ ما أستطيع، وفي المقابل تعلمت من مهنتي العسكرية الالتزام والاحترام والنظام.

أما كإنسان فكنت كمثل القائل: «الجبل لا يحتاج إلى الجبل بل الإنسان يحتاج لأخيه الإنسان»، فالناس للناس والعيش بانفراد صعب، بل يجب مشاركة الجماعة، فالإنسان بطبعه إنسان اجتماعي يحب التآلف والتعاون والتأقلم والتكيف.

تنمية اجتماعية

ظهر علم الاجتماع كتحدّ للحداثة وما فرضته من أنماط «عزلة وفردانية» مواكباً للتحولات الاجتماعية كيف ترى هذا العلم ودوره في تنمية المجتمعات والمساهمة في إثراء المعارف؟

بالطبع المجتمعات الإنسانية تتتعرض منذ وجودها الى التغير والتطور، فالتغير سمة أساسية للحياة، وهناك تغير تلقائي ومقصود، وبالتالي يتأثر التلقائي بالمقصود، وأحيانا المقصود بالتلقائي، وهنا يتدخل الإنسان بشكل عام لاستمرار الحياة ومعالجة المشكلات والصعوبات الناجمة، نتيجة التغيرات والتحولات والتنمية قائمة على هذا المعطى.

ومن هنا يلعب علماء الاجتماع والمتخصصون في مجالاته الدور في مسايرة ومواكبة التغيرات بهدف ضبط كثير من السلوكيات، والأنماط الجديدة المرافقة للتحولات، ولذا من الطبيعي أن تظهر الحاجة الأكيدة الى وجود مؤسسات اجتماعية لتتحمل بعض المسؤليات وتواجه المشكلات وتتابع سير التنمية، وأكثر العلوم الانسانية أثراً ودعماً وتشجيعاً للمعارف علم الاجتماع، فهي ترسانة المعارف، وخاصة نشر الوعي الثقافي والمعرفي بين شرائح المجتمع وأحيانا تدريب أفراد المجتمع حتى يمكنهم من القيام بواجباتهم الوظيفية والإدارية والاجتماعية والتنموية في الحياة بالشكل الصحيح، بما يكفل في النهاية استقرار المجتمع بشرط أن تناسب برامج وسياسات الخطط الاجتماعية الموضوعة لحاجات المجتمع، وتهيئة الرأي العام لتقبل أفكار وآراء جديدة، نتيجة لتلك لتحولات والتغيرات إلى الأحسن ومعرفة اتجاهات ورغبات الناس، وهذا لا يتم إلا بوجود أشخاص من دارسي ومتخصصي علم الاجتماع.

اتجاهات حديثة

يقال: إن البدايات الأولى كانت مع العالم العربي ابن خلدون، الذي يعتبر أب علم الاجتماع الذي استقت منها كافة المدارس الحديثة هل نجد في التجارب العربية الحديثة علامات مضيئة تركت أثرها في علم الاجتماع واتجاهاته الحديثة؟

ظهرت اتجاهات عربية حديثة في علم الاجتماع، خاصة فيما يتصل بالحياة الاجتماعية والتنمية الاجتماعية والتنشئة، وغالبا هذه الاتجاهات تكون حبيسة الأوراق والأدراج والروتين، ولا يطبق كثير منها من قبل المؤسسات، ولهذا يجب ضرورة إيجاد قنوات التعاون والتواصل بين المؤسسات ودارسي علم الاجتماع، وهذا التعاون سيسهم في نجاح وتنمية المجتمعات والتغلب على المشكلات إن ظهرت من البداية وليس من النهاية.

المدارس الفكرية ومسارات علم الاجتماع تحدد مسارات العلاقات العامة إذ إن المجتمع هو أساس علوم الاجتماعيات من منظور محلي، كيف وظفتم معارفكم في هذا المجال لقراءة المجتمع وتحولاته؟

مدارس علم الاجتماع كثيرة ومتعددة، وكذلك مسارات العلاقات العامة وتتداخل وفق أنماط هذه العلاقة، ووفق حقل تجريبها، ففي الحياة العسكرية «الأمنية» هناك أدوار متبادلة ومترابطة حول نشاط المؤسسة وتحليل المشكلات للوقوف على الأسباب، وفي حقول أخرى تدرس ظواهر مثلاً كالعنف والانحراف أو الطلاق، وخاصة اذا وصلت الى درجة أن تكون المشكلة ظاهرة، ودور علم الاجتماع ضبط السلوك وفق الدين والعادات والتقاليد والقانون ولعب دورها في التوجيه والتوعية والإرشاد.

والعلاقات العامة في المؤسسات منوط بها المسؤولية الاجتماعية تجاه أفراد المجتمع نحو البناء والترابط والتوافق بين مكونات المجتمع الواحد، بمعنى أن العلاقات العامة وعلم الاجتماع هدفهما تحسين الحياة الاجتماعية في المجتمع.

في الإمارات أكثر من 200 جنسية ما يعني ثقافات مختلفة وأفكاراً متنوعة، ما هي أهم المرتكزات الأساسية لصون الهوية المحلية في ظل كل هذا «التأثير المتبادل» و«القيم المتشابكة» وما دور الدراسات الاجتماعية في تقديم المشورة في هذا الشأن؟

وجود أكثر من 200 جنسية في الإمارات يعني تنوعاً ثقافياً، وانتقالاً ثقافياً من أماكن وتجمعها في مكان واحد، وبالتالي وجود اتصال ثقافي وربما خلق منطقة ثقافية جديدة، بل قد يصل أحيانا الى صراع ثقافي قد لا يكون ظاهراً في البداية، لكن له تأثيرات مختلفة على الثقافة والهوية الوطنية «المحلية»، ولحفظ الموروث والهوية الثقافية، تم تأسيس العديد من المؤسسات الثقافية ذات الطابع المحلي والعربي «حكومية وخاصة» لمواجهة الطوفان الثقافي الأجنبي الوافد (بالطبع غير العربي)، كما تم تأسيس العديد الجوائز الثقافية لتكريم المثقفين المواطنين والعرب.

كما ساهمت الملاحق الثقافية والصفحات الثقافية في الصحف المحلية في ذلك، وخير مثال (بيان الكتب)، إذ تساهم هذه الصفحات في التركيز على الثقافة العربية، كما أن الأمسيات الثقافية تلعب دوراً، إضافة إلى معارض الكتب وغيرها من الأنشطة والفعاليات.

ورغم ذلك يجب دعم قطاع النشر وخاصة الإنتاج الثقافي المحلي، ودعم كل ما يتعلق بالولاء والانتماء والهوية والعادات والتقاليد والخصوصية، كما يجب زيادة الصالونات الثقافية والأدبية، كما أن المواطن والمثقف الإماراتي مُطالب بدور كبير في هذا الشأن.

مُقاربة مجتمعية

كيف وظفتم علم الاجتماع كتخصص في خدمة الأمن المجتمعي، والاستفادة من دوره المحوري في المُقاربة الأمنية؟

وظفتُ دائماً علم الاجتماع في العمل ولصالح العمل، ومن ضمن ذلك إحداث التوافق والتكيف ما بين أهداف المؤسسة «العمل»، ورغبات المتعاملين «الجمهور» والتأكد من أن المتعاملين، يتلقون الاهتمام التام من الموظفين في المؤسسة، وإقامة علاقات قوية ومتينة بين الموظفين بعضهم مع بعض في المؤسسة، ويبرز دور علم الاجتماع في الجهات التي تقدم خدمات إنسانية لأفراد المجتمع مثل السجون ومراكز التأهيل، فاليوم يوجد في المؤسسات العسكرية مراكز الدعم الاجتماعي والشرطة المجتمعية، ويعمل بها متخصصون في علم الاجتماع والعلاقات العامة.

وأنا اعتبر نفسي متطوعاً مجهولاً لخدمة قضايا الناس، سواء كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالمثقف والمتعلم له دور كبير في المجتمع من حيث التوعية والتنوير.

إضاءة

محمد صالح بداه العوضي، من مواليد العام 1955، درس في مدارس دبي وعجمان وأم القيوين، وحصل على باكالوريوس الخدمة الاجتماعية عام 1980 من جامعة حلوان بمصر، عمل في وزارة الداخلية وتدرج فيها متقلداً مسؤوليات عديدة، حاز على مجموعة من الجوائز من ضمنها؛ جائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للأداء التعليمي المتميز 2000، وجائزة الشارقة للتميز التربوي 2006 وجائزة الشيخة فاطمة بنت مبارك للبر «الإغاثة الخارجية» 1991، صدر له مجموعة من المؤلفات مثل؛ «محطات من الحياة» و«رسالة القلم لطالب العلم» و«لسعات اجتماعية» و«الرماية بالكلمات» وغيرها، كما له مساهمات عديدة في الصحف المحلية.

ترسانة معارف مُجترحة من الواقع

 

كتاب «الرماية بالكلمات» الإصدار الأخير للكاتب محمد صالح بداه العوضي، يشكل ترسانة معارف تحمل رسائل عميقة مُجترحة من الواقع، الكتاب صدر عن دار الياسمين للنشر والتوزيع، في طبعة أولى 2014، وضمنه الكثير من الحكم، عبر 127 صفحة، لخصت تجارب الكاتب الذاتية ورؤيته للحياة في مختلف مشاربها، حول الفكرة التي أثمرت هذا العمل والترسانة التي بزغت منها كل تلك الرسائل الجميلة في المحتوى قال بداه العوضي: إن «فكرة «الرماية بالكلمات» مستوحاة من كلام الناس أو ما يدور بينهم»، كما استقاه من المشكلات أو القضايا المجتمعية، أو مما سمعه في المجالس من مناقشات ومساجلات وآراء وأفكار وأفراد المجتمع، فيلتقطها ويحولها إلى كلمات وجمل، يركز فيها على الدلالات والمضمون والعبرة من القضية.

في كتاب «الرماية بالكلمات» كلمات عميقة تشبه السهام؛ نافذة وسريعة ولاذعة في نقدها لمسلكيات أو ظروف أو أنماط لا يراها الكاتب صحيحة، والإصدار يشبه إلى حد بعيد إصداره السابق «لسعات اجتماعية» في طريقة الإضاءات والرسائل السريعة المختصرة، والأكثر نفاذاً الى القارئ في زمن السرعة، في اتجاه خاص بالكتابة يشبه التدوينات التي نعبر بها عن أنفسنا أو رؤيتنا للأشياء على مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر وفيسبوك».

فيما يرى العوضي أن العوالم الافتراضية لا ينكر أي أحد تأثيرها في كل شيء، حتى الكتابة، وما أضفته من سرعة على الحياة، حيث قال: «مرت على البشرية عدة موجات وأهم هذه الموجات موجة الإنترنت والهواتف الذكية، وأنا شخصياً أرى أن التكنولوجيا الحالية أفادت البشرية كثيراً، حيث وفرت الوقت والجهد والمال والتواصل، لكن كيفية الاستفادة، إيجابياً أو سلبياً منها يتوقف على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وليس على الإنترنت وهذه المواقع، فهذه التقنيات جاءت لتسهل حياة البشرية، والاستغلال السلبي لها مرفوض ولا يحقق أهدافها المرجوة».

ويقارب بداه العوضي في كتابه بين محتوى رسائله وأبحاثه واهتماماته الاجتماعية، مؤسساً فضاءات للقارئ وفسحة للتخيل تركن إلى الواقع في كل شيء، كي تقدم زبدة التجارب الحياتية والاجتماعية، حيث رصد المؤلف معلومات جمة شملت قضايا وميادين متنوعة.