القراءة المتأنية والفهم العميق للبعد الاجتماعي والثقافي والحضاري لأهداف كتاب «إزالة الشبهات عما لحق بتراث الإمارات من تشويهات ــ قراءة في كتاب ومقالات معاصرة»، للباحث حماد بن عبدالله الخاطري النعيمي، جّل ما يحتاجه المتخصصون والقراء في علم الأنساب، للتسلح بالوعي حول حيثيات الجدل الدائر بين الباحث ذاته، ومشروع فحص الحمض النووي:

 «دي إن إي»، DNA، الخاص بالكشف عن أصول القبائل على مستوى الأفراد. ويشدد النعيمي في حواره مع «بيان الكتب»، على أن الاستعجال في اعتماد المشروع، سيؤدي إلى الطعن في الأنساب، والمساس بركائز انسجام ولحمة المجتمعات وصلابة بنائها الإنساني، محدثاً مأزقاً تاريخياً، كون الذين يناقشونه في مجتمعنا المحلي، خاصة، يفتقدون إلى المعرفة العلمية به، وبتفاصيل مكوناته ومتغيراته.

كما يوضح، في السياق، أن خروج الكثير من الكتّاب عن معيار الأمانة العلمية في تناول بحوثه في المجال، واقتباسهم مجهوداته، من دون الإشارة إليه أو إلى الإصدار، أشعل فتيل أهمية مبادرته في الرد عليهم، من خلال مقالات معاصرة، نُشرت في العقد الأول من القرن 21.

الأمانة الفكرية

أشرت في كتابك «إزالة الشبهات»، إلى تعرض كتاباتك ووثائقك وروايات تناولتها واعتمدتها في كتبك: «أوثق المعايير في نسب بني ياس والمناصير»، «أطيب الثمرات في التعريف بقبائل الإمارات»، «أعذب الألفاظ في ذاكرة الحفاظ»، إلى استخدام مضمونها من قبل البعض، من غير الإشارة إليها. ما مدى تأثير ذلك الأمر في دفعك إلى تأصيل المعلومات وإعادة إثراء الساحة البحثية في المجال؟

أود أن ألفت بداية، أن المسائل النقدية، فعلياً، لا تزال محل تقصير في العديد من أصول العلم والمعرفة، وإعادة النظر فيها ضرورة، للوصول إلى توثيق موضوعي يسهم في تعزيز الرافد التراثي، لما له من دور في تأسيس النشء، وكونه يقدم إلى المؤسسات المجتمعية والثقافية، زخماً نوعياً، إذ يطرحون عبره برامج ومناهج تنمي الوعي العام عبر المعرفة التاريخية.

وحول الواقعة السابقة، المتمثلة في اقتباس بعض الكتّاب من كتبي، واعتمادهم على نتاج مجهوداتي في الحقل، من دون الإشارة إلى ذلك، فإن «إزالة الشبهات» يأتي لتوضيح أبعاد تلك المسألة بالكثير من التفاصيل، سعياً إلى مناقشة حجم الخطأ وتداعيات هذا الفعل، على المنتج التراثي تحديداً. وفي هذا الصدد، لا شك أن مفهوم الأمانة العلمية جاء حفاظاً على التراكمية العلمية ومصداقيتها للباحث أو الكاتب.

وأتذكر هنا اقتباس أحدهم أكثر من 40 قصيدة، كنت قد جمعتها من رواة لا يتفقون على تسلسل أبياتها. وعمد المقتبس ذاك، إلى نشرها بأخطائها المطبعية الموجودة في أحد إصداراتي. إنه في الحقيقة لم يشر إلى ذلك (أخذه من كتابي)، مطلقاً، لكن أخطاء الطباعة ذاتها، كشفته وأثبتت الأمر، بشكل منطقي.

جدل التشكيك

الطعن في عروبة قبائل معينة، اعتماداً على نتائج مشروع الفحص الجيني. كيف تفسر لنا موقفك من الطرح هذا، بين تصريحك في الكتاب بعدم احترامك لاعتماد هذا الفحص، كونه متغيراً، وجدل التشكيك الحاصل حول المعلومات التاريخية لأصول القبائل وتداخلها الاجتماعي؟

ربما يتبادر إلى ذهن القارئ، أنني أقف ضد العمل في علم الفحص الجيني (DNA)، ولكن الحقيقة أنني لست ضد هذا العلم؛ كعلم، ذلك لسببين، أولهما: ليس هذا الحقل من تخصصي، وثانيهما: أن الفحص الجيني لا يزال يصنف مشروعاً يبحث في زمن الكائنات. وأوضح هنا، أنه لا يمكن تصديق ما يأتي به البعض من أن الفرع الفلاني يعود إلى القبيلة الفلانية أو القبيلة ترجع إلى (عدنان) أو (قحطان).

وذلك للتداخل القبلي الحاصل منذ آلاف السنين. علماً أن البعض ادعى أنه توصل إلى معرفة أن هذا الفرع من (هذيل)، أوذاك الفرع من (قريش). ومن المعلوم تاريخياً، أن (هذيل) أخو (خزيمة)، جد (قريش). فكيف ميّز الـ (DNA) بين الأخوة. وكذلك ادعى البعض أنه استطاع بفحص الجينات، أن يميز بين (مضر) و(ربيعة) أبناء (نزار بن معد بن عدنان)، وهما أخوة. أو بين (طيء) و (مذحج).

وهم كذلك أخوة من (القحطانية). وبما أنه لايزال (مشروعاً)؛ فنحن ننتظر اكتماله، ولا يجوز الجزم به. وهو في طور التجريب. وأصدر بعض من هؤلاء، شجرة جينية لإحدى القبائل، ادعى فيها معرفة انتماءات الأسر. فهل يعقل هذا عندما يكونون أبناء رجل واحد؟

ازدواجية

ماذا عن أبعاد اعتماد فحص (DNA) في هذا الشأن، في ظل الانفتاح المعلوماتي. وكذا تأكيدك أن أغلب من ناقش مسألة مشروع الفحص الجيني ليس متخصصاً فيها، كون غالبيتها تحكمها الأمزجة والأهواء وسمة فقدان رصانة النقد العلمي؟

مضمون التراث المحلي، تحديداً في خصوص علم الأنساب العريق، والذي يعد أحد أصول علم التاريخ، يحتاج دائماً إلى رصانة علمية في مستوى النقد. وفي السياق، فإن كتابي (إزالة الشبهات)، ناقش أموراً موثقة وغير موثقة في علم الأنساب، متضمناً أدلة ملموسة عن قلة وعي البعض في كيفية الطرح العلمي للمعلومة ومناقشتها. وأنا من هذا المنطلق، أريد تبيان أنني لم أتهم أحداً في كتابي. لكني طالبت برد واضح على ما طرحوه في مقالاتهم بأحكام مطلقة تجيز نتائج الفحص الجيني.

وطالما لم يكن هناك مناقشة صحية مبنية على المرجع الصحيح المصدق على ما كتبوه، فإن النتيجة أنني الأحق في رؤية اعتماد مشروع الفحص الجيني كازدواجية تطعن بالأنساب وتهدد البناء الأسري والانسجام الثقافي، الذي نسعى في الإمارات وفي دول الخليج العربي والعالم العربي أجمع، إلى توطيده في نفوس أبنائنا وأجيالنا القادمة، لأن الحديث والتشكيك بهذا الخصوص، إنما مساس في القيمة المجتمعية.

مسؤولية القارئ

مسألة (تحديد النسب)، مهمة بالنسبة للجميع، بدءاً من جهود المؤرخين والنَسّابة والعلماء، ومروراً بالمتابع المتخصص، ووصولاً إلى القارئ المهتم.. وأنت أوضحت بشأن هذه القضية، أن هناك «استهانة في عقل القارئ»، إلى جانب استعجال المتابع في تقييم الكتب الراصدة لتلك البحوث في التراث. هل يمكن أن تصف لنا آراءك في الصدد، من خلال تعاطيك وبحثك؟

إن مسألة الجدل، ليست حكراً على هذا المضمار، بل إنها حالة عامة توجد في كل النقاشات والآراء المتعلقة بالعلوم الاجتماعية والتطبيقية. لذا فإن استيراد تجارب ومعلومات غربية في مسائل جدلية تتعلق بالتراث والتوثيق، يحتاج إلى بحث يتجاوز المرحلة الآنية.

كما أن عملية تبني حالات دونما توضيح فعلي، إنما هي استخفاف بعقل القارئ الذي يحمل مغبة عناء قبول الطرح العلمي، إلا أن استعجال الكثيرين في الحكم على تلك الإصدارات، عن طريق آراء يتبادلها الأشخاص، بلا قراءة مباشرة، أمر يؤدي إلى فقدان قيمة المعرفة الفعلية.

وأتذكر هنا طرفة سمعتها من أحد الأشخاص، مفادها أن أحدهم قرأ اقتباسات لمقالات آخرين كتبت في المجال (وضعتها في الكتاب للتعليق عليها). واعتقد القارئ نفسه، وقتها، أنها لي، من دون أن يكمل القراءة للكشف عن كل التفاصيل. تخيلوا إلى أي درجة هناك استعجال واستسهال من قبل المتابع. وهي مسألة في حد ذاتها، إشكالية تعيق إيصال الرسالة العملية البحثية، بعد نشرها.

الشعر في الأنساب

الروايات والقصيدة الشعرية، واستثمارها في مسائل تحديد الأنساب أو البحث في أصولها وفروعها.. إلى أي مدى يمكن أن تلعب دوراً محورياً في إثراء المعالجة البحثية في المجال. واللافت هنا، أن «إزالة الشبهات»، حمل نماذج عديدة في الصدد، منها: (أخطاء في شرح قصيدة الحسين بن ثابت العبدي)؟

لا شك في أن الابتعاد عن قصائد محددة، حملت بين طياتها بذور الاحتكاك والتشنج بين القبائل، ضرورة مهمة جداً. ذلك لما لها من تأثير غير صحي على المجتمع، وهذا من منطلق اعتبار وركائز الحفاظ على الأركان الأساسية للوطن. ودائماً، يكمن الخطأ في عدم الاعتماد على مصادر ومراجع علمية، في تفسير القصيدة وفهمها.

والإشكالية التي بينتها في الكتاب، هي محاولة بعض الكتّاب نسب قبائل شهيرة إلى غير أصولها، مستمدين من نتائج الفحص (دي إن إيه)، حجة أولية. وتحريف الألفاظ الواردة في القصائد حجة ثانية. وجميعنا نؤمن بأن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حقق إنجازاً إنسانياً بتوحيد القبائل في الإمارات، وسنظل نكرر:

(اننا عيال زايد). وسنورث هذه المقولة لأبنائنا. وأوردت هذا المعنى في قصيدة وطنية، منها هذه الأبيات: «والـلـه أنا نحب دولتنا إجلال.. وحبها معنا بعد حـب الرسول وحب قايدها فريضة لا محال.. في ضمايرنا مثبت مـا يزول

يشهد الـلـه زارعينه في العيال.. والاطفال تشيد باسمه والكهول زايد اللي شد للعليا الرحال.. عقب مـا كانت صعب جت له ذلول».

 بطاقة

حماد بن عبدالله الخاطري النعيمي. كاتب إماراتي. حاصل على بكالوريوس شريعة، والماجستير في التاريخ. وهو باحث ميداني في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. عضو اتحاد المؤرخين العرب وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب. من مؤلفاته: (ديوان ابن نعمان) ـ تحقيق. يعمل حماد النعيمي، حالياً، على رسالة دكتوراه بعنوان:

«قبائل الخليج العربي بين الرواية المحلية والكتابات الغربية».ويؤكد في دراساته في الصدد، أنه من خلال اطلاعه على معلومات تاريخية، عديدة، عن المنطقة، في المراجع الأجنبية، والسؤال عنها لدى المعنيين، لاحظ عدم معرفة الجميع بالكاتب الأجنبي الذي تولى الكتابة عنهم،أو حتى بالمعلومات الموثقة حولهم. لذا جاء الحرص على تاريخ وحضارة البلد، كأولوية في نهجه وسعيه، بهدف أن يضع البحث في الحقل، ضمن أجندته الدراسية، ويستثمره في دراسته للدكتوراه.