للإسلام مقاصد عظيمة، تتحقق بها سعادة البشرية، وتوفير الأمن والأمان ليس للمسلمين فحسب، بل للنوع الإنساني برمته، ولكن شريطة أن تجد هذه المقاصد طريقها إلى الواقع، أن يفرج عنها إلى العلن.
من ضمن هذه المقاصد: ترسيخ وتنمية القيم الأخلاقية من عدل وتراحم وبذل وعطاء، وغير ذلك كثير، فالصدقة على سبيل المثال سواء كانت التطوعية أم المفروضة، إنما هي في أحد أوجهها إطار عام يرسم ملامح مجتمع متراص ومتماسك، ينزع نحو تقريب الفجوات القائمة بين الناس على أساس اقتصادي أو مالي، من دون أن يحرم المجتهدين من نيل جزاء اجتهادهم وعملهم. وقد نمَّت الشريعة الإسلامية حب البذل والعطاء في نفس الإنسان، فأمرت المسلم لحكمة عظيمة بأن يخصص جزءا من ممتلكاته - النقدية والعينية - للمحتاج من إخوته المسلمين.
وجاءت التوجيهات الربانية الحكيمة في آيات كثيرة من القرآن الكريم تحض على التصدق، والوعد للمتصدقين بخير الجزاء من عند الله تبارك وتعالى، فقال عز وجل: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". (التوبة: 103). فالمقصود بالصدقة في الآية بحسب أقوال جمع من أهل التأويل: الصدقة التطوعية، وهي هنا طهور للمسلم مما لحق به من ذنوب ومعاص، وتنمية لأخلاقه ومناقبه، ورفعه في منازل الصالحين، وأهل الإيمان والإخلاص.
وقد قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تأويله للآية عن الصدقة "إنها مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صحة إيمان المتصدق، وصدق باطنه مع ظاهره". وبهذا المعنى، فإن الإسلام ينتقل بنا إلى من ميدان الإيمان القلبي واللفظي، إلى أفق آخر يتجلى بالإيمان العملي الذي يدل على صدق ما في القلب وما يجري على اللسان، وهذا من عملية الإسلام وحيويته، وقدرته الخلّاقة على تنمية قيم الحق والخير، وبعث الروح الإيجابية في النفس البشرية، وهو في حد ذاته أحد أوجه التميز والانفراد مما يصعب حصرها - التي علا بها الإسلام فوق سائر التشريعات في كل زمان ومكان.
وفي ظل الواقع المعاش لكثير من المسلمين حيث الأرامل والثكالى واليتامى والمشردين - تعلو قيمة الصدقة، وبالأخص التطوعية منها، وترتفع الحكمة من تشريعها كمنارة تشير - بشعاع من نور - على نبل هذا الدين العظيم، وروعة أحكامه، وعِظَم ما رمى إليه وسعى إلى تحقيقه. ففي الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من يوم يُصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعطِ مُنفقاً خلَفاً، ويقول الآخر اللهمَّ: أعطِ ممسكاً تلَفاً". وفي نص آخر تشجيعي ومحفِّز، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ".
يريد الله تبارك وتعالى، من خلال النصوص والأحكام، أن يرى من عباده خيرا، وصدقا، وسلوكيا عمليا يبرهن على أن المسلم قد ذاب تماماً مع التوجيهات والتشريعات التي وهبه ربه إياها، وإلا فما معنى أن يرتفع صوت المرء عاليا: "أنا مسلم"، في الوقت الذي "تظلِّله" سحابة من السلبية، فيجلس ساكنا بلا حراك، أمام إخوته المسلمين وهم يتلوّون جوعا وفقرا وتشريدا وألما؟! لا شك أن من هذه حاله لم يفقه حقيقة الإسلام، ولا مراد الله تبارك وتعالى من تحريضه الصارخ في كتابه الكريم: "مثل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 261).
تأويل فاسد
علّق الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى على الآية تأويل، ومما قاله: أَمَرَ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة يُطَهِّرهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ بِهَا وَهَذَا عَامّ وَإِنْ أَعَادَ بَعْضهمْ الضَّمِير فِي أَمْوَالهمْ إِلَى الَّذِينَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَخَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَر سَيِّئًا وَلِهَذَا اِعْتَقَدَ بَعْض مَانِعِي الزَّكَاة مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب أَنَّ دَفْع الزَّكَاة إِلَى الْإِمَام لَا يَكُون وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا خَاصًّا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا اِحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى "خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة" الْآيَة. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّأْوِيل وَالْفَهْم الْفَاسِد أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَسَائِر الصَّحَابَة وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدَّوْا الزَّكَاة إِلَى الْخَلِيفَة كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ الصِّدِّيق: وَاَللَّه لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - وَفِي رِوَايَة عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعه.
