الوقف لا يزال درة الحضارة الإسلامية وتاج مدينتها وأحد أهم أسباب رقيها وتقدّمها. وقد كان دوره مرتبطاً بمقاصد تحقيق التنمية والحضارة، وقد تراجع تطبيق هذه الشعيرة الإسلامية بدرجة كبيرة، وهذا التراجع دفع جامعة الأزهر إلى عقد ندوة بعنوان «الوقف الخيري والتعليم الجامعي» لإحياء هذه الشعيرة المعطلة في نفوس المسلمين، ناقشت أهمية إحياء الوقف وخاصة خلال هذه الفترة التي تمر بها الأمة الإسلامية من ضعف في مواردها الاقتصادية، وسعى العلماء في بحوثهم إلى توضيح الرؤى والإطار الشرعي للوقف ومقاصده العامة.

وخلال الندوة قدّم د. علي محيي الدين القرة داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بحثا كشف فيه عن رؤية فقهية للوقف ومقاصده، وقال إن الوقف مشروع من حيث الأصل عند جماهير الفقهاء، بل مستحب ويدل على مشروعيته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. ففي الكتاب آيات كثيرة تدل بعمومها على مشروعية الوقف وأنه مطلوب، منها قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77)، حيث أمر الله تعالى بفعل الخير بصيغة تدل على العموم إذا حملت (أل) على الاستغراق، أو على جنس الخير إذا حملنا (أل) على الجنس، وعلى كلا التفسيرين يدخل في الخير الوقف ونحوه، مصداقا لقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92).

أما السنة النبوية المطهرة فالأحاديث القولية والفعلية الواردة في الوقف أكثر من أن تحصى، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قام بالوقف، كما قال الإمام الشافعي إن الوقف من خصائص الأمة الإسلامية، وإن أول وقف هو وقف بني النجار لأرض مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حيث روى البخاري بسنده عن أنس قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا». قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.

وَقْفُ الصدقة

ويقول القرة، إنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف في حياته، حيث جعل أرضاً له صدقة؛ أي وقفاً، قال الحافظ ابن حجر: لأنه تصدق بمنفعة الأرض فصار حكمها حكم الوقف، كما ثبت أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها شيء إن تصدقت عليها؟. قال: نعم. قال: أشهدك أن حائطي الحراق صدقة عليها.

أما الصحابة الكرام فإن معظمهم قام بالوقف، فلم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد حبس رباعاً كانت له بمكة، وأوقف عثمان - رضي الله عنه - بئر رومة، وكذلك أوقف علي - رضي الله عنه - أرضاً.

ويواصل الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حديثه، مؤكداً أن ثمة علاقة بين الوقف والقرض الحسن الوارد في القرآن الكريم؛ فالقرض ليس محصوراً في القرض المعروف المتمثل في دفع مبلغ ليرد مثله في المستقبل، وهذا التفسير هو الراجح حتى قال الفقيه القاضي ابن العربي: «والصحيح عندي ما قاله الحسن من أن المراد بالقرض الحسن هو مجال الأموال فقط بدليل فهم الصحابة لكلمة القرض حينما سمعوا الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}(البقرة: 245).

ويشير القرة إلى أن التعبير بإقراض الله تعالى يراد به كل ما هو عام وكل ما يحقق التكافل للأمة، حيث تستند حقوق الدولة والأمة والعامة والمجتمع إلى الله تعالى، ويعبّر عنها في عصرنا الحاضر بالحق العام، وهذا الحق العام عبّر الله تعالى عنه بـ»اقرض الله قرضاً حسناً».

ضوابط

ويقول الدكتور إسماعيل شاهين، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، إن المفسرين ذكروا أن هناك ضوابط صاغها الإسلام لإدارة الوقف وهي أن تكون إدارة ثابتة للواقف في حياته ولورثته بعد وفاته، ويتعيّن المحافظة على الوقف مما يحقق بقاء عينه ودوام نفعه، ويجب استثمار الأصول الوقفية، سواء كانت عقارات أو منقولات ما لم تكن موقوفة للانتفاع المباشر بأعيانها، كما يجوز استثمار جزء من ربح الوقف الخيري في تنمية الأصل للمصلحة الراجحة، ولا مانع شرعاً من إدارة الوقف في وعاء استثماري واحد مما لا يخالف شروط الوقف على أن يحافظ على الذمم المستحقة للأوقاف عليها.

ويشدّد على أن أموال الوقف لها طبيعة وسمات مميزة تختلف عن طبيعة الوحدات الاقتصادية الهادفة إلى الربح، موضحا أن من أهم هذه السمات تنوع أموال الوقف، وقد قسمها الفقهاء إلى ثلاث مجموعات؛ أموال ثابتة مثل الأراضي والمباني وما في حكم ذلك، وأموال منقولة وأموال نقدية. وإن القاعدة الأساسية أن يظل المال الموقوف مملوكاً للجهة الموقوف لها وله شخصية اعتبارية، ولا يجوز لناظر الوقف أو إدارة الوقف نقل الملكية إلا في حالة استبداله، وذلك بهدف تطوير وتنمية المنافع والعوائد.

وأكد دكتور حسين شحاتة، أستاذ المحاسبة والخبير الاستشاري في المعاملات المالية الشرعية، أن هناك ضوابط شرعية تحدّد قواعد استثمار مال الوقف الخيري مستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية، من أهمها: تحقيق النفع الأكبر للجهات الموقوفة عليهم، ولاسيّما الطبقات الفقيرة منهم، وعدم تعريض الأموال الوقفية لدرجة عالية من المخاطر، والحصول على الضمانات اللازمة المشروعة للتقليل من تلك المخاطر، وتحقيق التوازن من حيث الآجال والصيغ والأنشطة لتقليل المخاطر وزيادة العوائد، والتركيز على الاستثمارات قصيرة الجل وتجنب الاستثمار في دول معادية ومحاربة للإسلام والمسلمين، وتوثيق العقود، وهذه مهمة ومسؤولية إدارة استثمار أموال الوقف وعليها التأكد من صحة إبرام عقود الاستثمار ومراجعتها من الناحية الشرعية والقانونية والاستثمارية. بالإضافة إلى ضوابط أخرى تتعلق بمجال صيانة أموال الوقف منها: ألا تكون نفقة الصيانة مشروطةً على المنتفع بالأعيان حسب الوارد في حجة الواقف أو في العقود، وأن تكون هناك جدوى من عملية الصيانة.

 

ناظر الوقف

 

أشار د. حسين شحاتة إلى أنه من الضوابط الشرعية الأخرى، لاستثمار ريع أموال الوقف، الالتزام بحجة الواقف ما لم يحدث تغيير يخرجها عن جدواها وتحقيق التوازن بين مصالح الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة من المستفيدين، ولا سيّما في ظل التضخم وانخفاض القيمة الاقتصادية لأموال الوقف، ففي مثل هذه الحالة يتم توزيع جزء من العوائد وإعادة استثمار العوائد أو إنفاقها على طلاب علم آخرين.

أما بخصوص خصائص ناظر الوقف، فأشار الخبير الاستشاري في المعاملات المالية الشرعية إلى أن ناظر الوقف باعتباره المحرك الرئيسي لعملية الوقف له سمات وخصائص، منها أن يكون أميناً على ما في يده من مال الوقف، ويعتبر وكيلاً عن الواقف أو القاضي، ويجوز له أن يأكل من أموال الوقف بالمعروف، سواء نصّ الواقف على ذلك أم لا، كما يجوز أيضاً أن يكون الواقف ناظراً لوقفه حال حياته، وأن يشترط معيناً للنظارة بعد وفاته، ويجب عليه أن يحترم شرط الواقف وإذا لم يوجد من يستحق بشرط الواقف عينت المحكمة من يصلح له من ذرية الواقف وأقاربه.