مع كل يوم يمضي في تونس ما بعد الثورة، تتضح معالم المرحلة المقبلة، وتتضح أكثر طبيعة الحراك الديني، والاستقطابات التي قد تتكون حول ماهية العمل الإسلامي في تونس، ومن ذلك الإعلان الذي أطلقه وزير الشؤون الدينية التونسي نور الدين الخادمي بخصوص تكوين "مؤسسة إفتائية جامعة" تكون مصدراً للفتاوى الشرعية بعيداً عن الفتاوى "غير العلمية وغير الدقيقة".

هذا الإعلان ــ فيما يبدو ــ يشكل إرهاصاً أولياً لنشوء تجاذبات على الساحة المحلية. برزت أول ملامح هذه التجاذبات برفض مفتي الديار عثمان بطيخ للطرح الوزاري، ووقوفه على الطرف الآخر من الأطروحة. ومن المؤكد أن الرجلين اللذين يحتلان منصبين مهمين في البلاد سيستقطبان حولهما أشخاصاً وأنصاراً.

يستند الخادمي في طرحه إلى ما يعتبره انحرافاً وخللاً في الأسلوب والمنهج الذي يعتري الفتاوى في البلاد. ويعتبر أن مهمة الفتوى تحقيق التفاعل بين مجموعة من النصوص لإعطاء مقاربة للواقع، وأنها تتغير بتغير الزمان والمكان والحدث، وأنها تتطلب معرفة شاملة بالعلوم الشرعية، وأيضاً العلوم الأخرى حتى تتلاءم مع متطلبات العصر والواقع.

 

بلا معنى

هذه المبررات التي ساقها وزير الشؤون الدينية، لم تجد صداها المطلوب عند مفتي الديار التونسية عثمان بطيخ الذي جاء الرد على لسانه: إن المؤسسة التي أشرف عليها مؤسسة قانونية، ولا أرى موجباً لإحداث مؤسسة موازية للإفتاء في بلادنا، وأعتقد "أن هذا الكلام لا معنى له"، لأننا نسعى لتوحيد مؤسسات الإفتاء لا لتفريقها.

ويتابع مفتي الديار انتقاده للفكرة، ويقول: إن الوزير يريد أن ينشئ مؤسسة إفتائية موازية وهو ما من شأنه أن يحدث خلافات فقهية قد تؤثر على المجتمع التونسي. وكي يحمي انتقاده للفكرة، يطرح الشيخ عثمان بطيخ بعض الرؤى الإصلاحية بالدعوة إلى إدخال اصلاحات على المؤسسة الإفتائية التونسية التي يشرف عليها.

 

حوار

هذا الخلاف بين الوزير والمفتي "تمدد" على المستوى العمودي، وظهرت حرارته على ألسنة عدد من الأحزاب التونسية كحزب القيم والرقي الذي طالب بواسطة أمينه العام مراد مريكش بتفعيل دور مفتي الجمهورية كي يفصل في المسائل الشرعية التي تؤرق التونسيين - بحسب وصفه - وإلى أن يكون أئمة المساجد متخرجين في كلية الشريعة لكي يتمتعوا بالمستوى الكافي من العلم والمعرفة اللذين يؤهلانهم لاعتلاء مثل هذه المنابر الحساسة.

وقريباً من هذا المعنى برز على لسان أمين عام حزب الإصلاح والتنمية محمد القوماني الذي دعا إلى فتح حوار حضاري بين ممثلي التيارات ذات الطابع الديني ومكونات المجتمع المدني لتجاوز حالة سوء الفهم والشك والريبة التي تنتاب التونسيين بعضهم من بعض، منبهاً إلى ضرورة أن يتصدى للحديث باسم الدين أهل العلم والمعرفة في المجال بما يحول دون وقوع انزلاقات خطيرة.

أما حزب النهضة صاحب الجماهيرية الأكبر في تونس، والفائز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بأكثرية الأصوات، فقد تحدث على لسان عضو مكتبه السياسي المكلف بالشؤون الثقافية في الحزب العجمي الوريمي عن جملة من النقاط من أهمها تطوير الخطاب الديني وفتح حوار مع الشباب يشارك فيه إطارات من الوزارة وجامعة الزيتونة وكذلك فتح حوار مع النخب الجامعية للتعريف بالمحطات المضيئة في التاريخ الإسلامي.

دعوات

وظهرت دعوات من قوى أخرى تؤكد على ضرورة إصلاح المجتمع أخلاقياً واجتماعياً، وإصلاح المنظومة التربوية عموماً والتركيز على ما يخص المناهج الدينية خصوصاً، وإعادة الاعتبار لدور الكتاتيب كأول نواة يتعلم فيها الطفل مبادئ الدين الإسلامي، وإلى تحديث الخطاب الديني بما يتلاءم مع مشاكل العصر، وتحييد المساجد عن التجاذبات الإيديولوجية والسياسية، وتوحيد الخطاب الديني حتى لا يطرح كل شخص أفكاره الخاصة البعيدة عن المشترك الجماعي.

ومن جانب آخر خرجت أصوات ترى أن مقترح وزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي يأتي في مرحلة حساسة جداً تمر بها البلاد ولا تقبل مزيداً من تشتيت اهتمامات أبناء الشعب التونسي، معتبرين أن لدى تونس ما هو أهم بألف مرة من اقتراح مؤسسة إفتاء موازية لما هو موجود، وأن المقترح في حد ذاته من شأنه أن يدفع إلى مزيد من تبادل التهم والمزايدات بين أطراف سياسية متباينة.

 

تهميش الزيتونة

ولم يغب الأكاديميون عن الصورة، فقد تمثلوا بموقفهم بواسطة هشام قريسة نائب رئيس الجامعة الزيتونية الذي قال: ان «منصب مفتي الجمهورية هو وظيفة علمية يقوم بها من تأهل في العلم، فالمجتمع الإسلامي يفرز أشخاصاً لهم مكانة وسط المجتمع ولهم تكوين شرعي وعلمي فيتهيأون شيئاً فشيئاً الى افتاء الخاصة ثم افتاء العامة، وهو ليس وظيفة سياسية كما كان في الدولة الفاطمية ثم استمر في التقليد في الدول العربية الناشئة».