"الحكومة آخر من يعلم". ليس الأمر كذلك فحسب، بل إنها تعرف بعض أخبار البلاد من وسائل الإعلام! هذه هي الحقيقة التي استيقظت الحكومة التونسية عليها مع وصول الداعية المصري المعروف وجدي غنيم إلى تونس بدعوة من بعض الجمعيات الخيرية المحسوبة على حركة النهضة والتيار السلفي في البلاد، من أمثال «بشائر الخير» و«أكاديمية دار الحديث» و«الفرقان لتعليم القرآن» و«البصائر» و«الدعوة الاسلامية». ولم تتمخض زيارة الشيخ وجدي عن هذه الحقيقة فقط، بل كشفت أيضا عن كرة ثلجية من التناقضات في التوجهات الدينية تكبر يوما بعد آخر لتميط اللثام عن أولى معارك ما بعد الثورة حول الهوية العامة للدولة التونسية، وطبيعة الإسلام الذي يريده لها التونسيون.
حدث غريب
هذه الحقيقة جاءت على لسان علي اللافي المستشار السياسي والاعلامي لوزير الشؤون الدينية الذي قال في تصريح صحفي ان الوزارة لم يكن لديها اي علم بزيارة الداعية الاسلامي المصري الشيخ وجدي غنيم وانها اطلعت على الخبر مثلها مثل بقية الجهات الاخرى والمواطنين العاديين عبر وسائل الاعلام، واضاف ان تأسيس الجمعيات في تونس اصبح متاحا للجميع كما أن تنظيم اي نشاط لم يعد يتطلب اكثر من اعلام لوزارة الداخلية قبل 24 ساعة من موعد ومكان النشاط لتوفير الحماية الامنية له.
ولأنه حدث غريب، افتقدوا له لعقود، فقد احتشد أكثر من عشرة آلاف تونسي في قصر الرياضة في المنزه، ليس من أجل مباراة كرة قدم، وإنما هذه المرة من أجل الاستماع إلى محاضرة إسلامية على لسان الداعية المصري المعروف وجدي غنيم. وعلى الرغم من أن الجموع البشرية تقاطرت من جهات تونس الأربع، فإن ذلك لم يشفع لهم، وتفاجؤوا بقطع المحاضرة في أوجها، نتيجة أن بعض الأصوات ارتفعت من خارج القاعة ترعد وتزبد مطالبة بطرد الضيف المصري والسبب - بكل بساطة - أن الشيخ وجدي ومن ورائه من الجمعيات التونسية "يريدون إعادة البلاد إلى الوراء بتنظيم محاضرات تدعو إلى ختان النساء وما شابه ذلك من مواضيع دخيلة على المجتمع التونسي!".
حماسة غريبة
في الجهة المقابلة كان الشيخ وجدي غنيم يعلوا صوته - وسط حماسة كبيرة من الآلاف الحاضرة - قائلا: "موتوا بغيظكم أيها العلمانيون، تونس اسلامية، وليست علمانية" في حين كانت جماعات سلفية تردد وراءه بكل قوة: «الاعلام هو اصل البلية».
هذه الأجواء الساخنة وصلت حرارتها إلى المستشار علي اللافي الذي ردّ قائلا: «تصريحات الداعية وجدي غنيم لا تلزم الا صاحبها، والتونسيون ليسوا بحاجة الى من يعلمهم دينهم او يشكك في مكتسباتهم الحضارية. الشعب التونسي يرفض كل اشكال الحكم التي تتناقض مع الطابع المدني الذي ارتضوه لبلادهم».
وقالت وزارة الشؤون الدينية التونسية في بيان: «من حق الجمعيات والمنظمات دعوة اشخاص في شتى المجالات لزيارة البلاد والاستقادة منهم. ولكن على الجهة التي تستدعي ان تتحمل مسؤوليتها في احترام وتسامح اهل تونس واعتدالهم ووسطيتهم.. مكتسبات تونس لا يستطيع اي طرف اوشخص المساس منها وصاحب اية خلفية لن يؤثر الا في من يلتقي معه فكريا وبعضهم زار تونس ولم يسمع به احد الا من قابله.. الاولوية في تونس هي بناء البلد واصلاحه و درء المفاسد وايجاد التشغيل والقضاء على الفقر وتحقيق اهداف الثورة التونسية واستكمال مهامها التي اندلعت من اجلها، وتونس الثعالبي وخير الدين وبن عاشور وغيرهم كثير من المصلحين والدعاة لا تستحق فكرا جديدا وانما حكومة رشيدة وعدالة اجتماعية».
وهم
الى ذلك اعتبر وزير الشؤون الدينية التونسي نورالدين الخادمي في تصريحات صحفية «ان كل من يعتقد انه قادم لفتح تونس واهم، وان المنابر التونسية يجب ان تكون حكرا على التونسيين دون غيرهم».
وقال الشيخ عبد الفتاح مورو وهو شخصية اسلامية تونسية مستقلة سبق له وان كان من قيادات حركة النهضة ان المشكلة تكمن بالاساس في ان من الدعاة من يأتون «بفتاوى نحتوها من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه، ونقل الفتوى من مجتمع الى مجتمع مغاير يعيش وضعا مغايرا هو خطأ فادح. نحن لم ندخل الاسلام في العام 2011 وانما لدينا جامع الزيتونة المنارة الاسلامية العظيمة، ولدينا ارثنا العلمي الزاخر والخالد».
تجنب
اما مفتي الجمهورية الشيخ عثمان بطيخ فقال إن استضافة الدعاة ممن لهم علم متين ورأي سديد وتأثير محمود في الناس هو أمر مطلوب ومتعين، على أن نتجنب أصحاب الدعوات المشطة والغريبة عنا لئلا تكون سببا للفتنة التي هي أشد من القتل ونحن في غنى عن الانقسامات والخلافات لأننا نحمل عقيدة واحدة ونؤمن بشريعة واحدة. والمنصوح به هو حسن الاختيار وإلا فلا حاجة لنا بهؤلاء الدعاة».
ولم تنته المواقف التي هاجمت الشيخ وجدي غنيم عند المسؤولين الدينيين فقط، وإنما تعدت إلى بعض الشخصيات العامة كالحقوقية بشرى الحاج حميدة التي رفعت دعوى قضائية ضد وجدي غنيم والجمعيات التي وجهت له الدعوة بتهمة استثارة الفتنة وتهديد السلم الاجتماعي، وزياد كريشان رئيس تحرير جريدة "المغرب"، وآمنة المنيف رئيس جمعية «كلنا تونس» التي طالبت رئيس الدولة المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة حمادي الجبالي ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر ووزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية سمير ديلو بتوضيح مواقفهم من الدعوات الواردة على لسان الداعية الاسلامي المصري وجدي غنيم، معتبرة أنها دعوات تتنافى مع مفهوم حقوق الانسان حسب رأيها، ومشيرة الى خوفها من ان تكون حقوق الانسان مجرد مادة تسويقية للحكومة الحالية.
