دبي الرؤية والمسار

بقلم: أ. د. محمّد عبدالرحيم سلطان العلماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

في فصل ٍ بديعٍ من كتاب (رؤيتي: التحديات في سباق التميّز) بعنوان «الرؤية» يقصّ علينا صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، طرفاً رائعاً من مسيرة دبيّ، لؤلؤة الخليج، والحبيبة العالية الغالية على قلب صاحب السموّ الذي تفتّحت عيناه على ضجيج الحياة في هذه المدينة الرائعة، واقتبس من مُعلّمه ومرشده ووالده المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم كيف تكون البصيرة ممتدةً في الأفق البعيد، وأنّ دبيّ لن تتقدم ما دامت محكومة بسياسة الحذر وتقديم رِجْلٍ وتأخير أخرى، بل ستكون دبيّ من حواضر العالم إذا توفّرت لها ثنائية الحكمة والجرأة، والقدرة على اتخاذ القرار مهما كان صعباً، ويستشهد صاحب السموّ على واحد من القرارات الصعبة التي اتخذها الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، حين قرّر بناء ميناء جبل عليّ الذي كان فوق الحسابات، وتردد كثيرٌ من رجالات الدولة في الإقدام على بناء ميناء يفوق طاقة دبيّ في تلك المرحلة المبكرة من شبابها، لكنّ الشيخ راشد اتخذ قراره وقال لولده بنبرة الحكيم الواثق: «اسمعْ يا ولدي، سأقول لك الآن: إنّني أبني هذا الميناء لأنه يُمكن أن يأتي يومٌ لا تقدرون على بنائه».

وقد حاول صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد تفسير هذا الموقف الجريء فلم يجد سوى كلمة واحدةٍ تلخّص جوهر هذا الموقف «إنها الرؤية»، ثمّ يعزو صاحب السموّ هذا النفاذ في البصيرة إلى مدرسة الحياة التي يتعلّم فيها الإنسان من شيوخ الحياة أكثر مما يتعلم في المدارس والجامعات، وبنبرة عميقة الإحساس بالفخر يقول صاحب السموّ مرسّخاً هذه القيمة العظيمة في فن القيادة: «والدي تشرّب القيادة والقدرة على صُنع الرؤى من جدّي مثلما ورثهما جدّي عن أبيه، فأنا ابن قبيلة عربية في النهاية، وأبناءُ القبائل يستقون العلم والحكمة وبُعدَ النظر من أهلهم أكثر ممّا يستقونها من المدارس... وأستطيع القول بأنّ حُكّام دبيّ تمتّعوا أباً عن جَدّ برؤية مستقبلية واضحة لدبيّ».

هذه مقدمة لا بُدّ منها قبل الحديث عمّا كتبه سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم وليّ عهد دبيّ، رئيس المجلس التنفيذي، في حسابه على انستغرام من إشادة عظيمة التأثير في النفس بإنجاز والده فارس دبيّ وعاشقها وحامل رايتها، ووارث مجدها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي تسكن دبيّ في أعمق نقطة من قلبه المعمور بحبّ الحياة والمجد والخيل والهيل والطيب، فكان ثمرة ذلك هو هذا الإنجاز المدهش الذي سبقت به دبيّ كثيراً من مدن العالم المتقدم، والذي عبّر عنه سموّ الشيخ حمدان بهذا التساؤل المُفعم بالفخر في مشهدٍ بديعٍ تبدو فيه صورة صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد وهو يُلقي نظرة على أيقونة مجده وساكنة قلبه (دبيّ) ليترنّم سموّ الشيخ حمدان بهذين البيتين الرائعين:

كإنّكْ تِساءل مَنْ ورا كل الإنجاز

وعن المنظر الخَلّاب أنا وين أنا كنتْ

وكأنها تِقول: الله يا رمز الإعجاز

أنا ما صنع مجدي على الأرض غير أنت

بهذا الحِوار العميق الخلّاب تتشكل الصورة العاطفية التي يريد سموّ الشيخ حمدان إيصالها إلى القارئ، فهو يتكلم على لسان والده صاحب السموّ بو راشد متسائلاً: مَنْ يقف وراء هذا الإنجاز الفريد الذي تميّزت به دبيّ بين جميع مدن العرب؟ وكيف وصلت إلى هذه القمة العالية التي لا تُدانيها فيها مدينة عربية بل وسبقت به كثيراً من المدن العالمية ؟ وأين كان صاحب السموّ خلال مسيرة الإعمار والبناء لمدينة دبيّ التي تحركت فيها عجلة الحياة منذ أيام والده الشيخ راشد بن سعيد والذي أرادها أن تكون (وُجهةً) للعالم، وظل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد شديد الوفاء لتعاليم الوالد الجليل، فانطلقت دبيّ في عهده كالحصان الجامح لا يقف في طريقها عائق، وترسّخت مكانتها العالمية من خلال نهضة اقتصادية وعمرانية وثقافية واجتماعية وتكنولوجية يصعب تفسيرها في حدود المنطق العلمي، لكنّ الجواب جاء على لسان دبيّ الوفية لفارسها الشجاع لتقول له: (أنا ما صنع مجدي على الأرض غير أنت) مسبوقاً ذلك بصيغة التعجب من بديع صنع الله تعالى حين يضع أسرار العزيمة في قلب القائد ويجعل من أفعاله ما يشبه المعجزات، ليظل هذا الفارس المشبوب بروح المجد والمغامرة مسكوناً بتلك الهواجس التي سيطرت عليه يوم وقف في مطار هيثرو في لندن، حين كان عمره عشر سنوات، وكيف داعبت خياله تلك الصور القادمة لدبي التي يريد لها أن تكون عاصمة عالمية تحتل مكانة مرموقة لا تقل عن نظيراتها من مدن العالم الكبرى، وكيف أنه شمّر عن ساعد الجدّ وانخرط ببسالة تامة في معركة البناء، بناء دبيّ التي تستحق كل هذا المجد، فكان هذا الإنجاز الفريد المدهش الذي تجلى في مشاريعها الضخمة، وفي مؤسساتها الراقية التي تُنافس مثيلاتها في العالم المتقدم مثل مترو دبيّ الذي جعل منها مدينة نادرة الخدمات، ومثل مركز الفضاء الذي يحمل اسم صاحب السموّ، والذي كان له أكبر الأثر في وضع الوطن كله على خارطة الإنجاز العالمي الكبير، لكنّ أروع إنجازات دبيّ التي لفتت نظر صاحب السموّ هو مطار دبيّ الذي تفوق عام 2014 على مطار هيثرو، لتكون تلك اللحظة الفارقة لحظة تستحق التسجيل، حيث ذكرها صاحب السموّ في سيرته الذاتية البديعة (قصتي) حيث يقول: قبل عدة أعوام، وتحديداً في العام 2014 خرجت الصحف البريطانية بعنوان عريض في صفحاتها: (مطار دبيّ يتخطى مطار هيثرو كأكبر مطار في العالم في عدد المسافرين الدوليين)، وبإحساس عميق بالفخر والتواضع يعلق صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد على هذا الخبر قائلاً: «قرأتُ الخبر، وتذكرتُ وقوفي وأنا في العاشرة من عمري قبل أكثر من خمسين عاماً في مطار هيثرو، وقلت في نفسي: سبحان الله، سبحان الله».

هذه قصة دبيّ لؤلؤة الوطن الزاهية، مسيرة مُظفّرة من الإنجاز المقرون بالحب والتسامح والإبداع وعمق الانتماء، فالأوطان لا تتقدم بالآلات فقط بل لا بدّ فيها من قوة الروح وصفاء الضمير ونفاذ البصيرة، واستلهام النموذج القيادي الرفيع الذي يُلهم الأجيال حبّ الوطن والتفاني في خدمته، ويصوغ مسيرة الحياة علماً وثقافة وشعراً وغناءً لوطن يستحق منا الكثير، ولقائدٍ نذر نفسه لبناء الوطن والسهر على راحة أبنائه، وارتياد الآفاق النادرة التي لا يقوى على ارتيادها، إلا فرسان العطاء وقادة التغيير ضمن معادلة فريدة من الأصالة والمعاصرة.

 

Email