قراءةٌ في كلمات محمد بن راشد

الرحمة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْزِلاً، فَانْطَلَقَ إِنْسَانٌ إِلَى غَيْضَةٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتِ اَلْحُمَّرَةُ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُؤوسِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أَصَبْتُ لَهَا بَيْضاً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْدُدْهُ».بهذه الرقة الإنسانية الفريدة يعبّر رسول الإنسانية الرحيم القلب، صلى الله عليه وسلّم، عن طبيعة إحساسه بلوعة قلب هذه الحُمّرة /‏ الحمامة الصغيرة حين قال: من فجع هذه؟ فكأنه يريد أن يقول لأصحابه ولأمته من بعده: كونوا رحماء القلوب بكل شيء، فهذه الكائنات اللطيفة أيضاً لها قلبٌ يتفجّع من لوعة الفقد، وتحبّ صغارها كما تحبون أنتم صغاركم، وتستحقّ الرحمة التي قسمها الله بين عباده من جميع الكائنات.

وفي لفتة إنسانية فريدة عامرة بالدلالات الدافئة كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، تدوينة باهرة الثراء، مشيداً بموقف إنساني نبيل صدر عن إنسانة مرهفة الإحساس تعيش في دبي، مدينة الخير والمحبة والرحمة، حين تفاجأت على شاطئ دبي بطائر يزحف بعد أن كُسرت قدمه، وأصبح يجرّ نفسه بحركة ثقيلة جداً، فلم يكن منها إلا أن بادرت إلى الاتصال ببلدية دبي ثم تسجيل الواقعة ونشرها، لتكون ردة الفعل على هذا الموقف الإنساني بحجم نبل الإنسان، حيث سارعت الجهات المختصة في بلدية دبيّ إلى العناية بالطائر الكسير، وتقديم كل ما يلزم في سبيل الحفاظ عليه، فكان لذلك الموقف أطيب الأثر في نفس صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد الذي كتب تغريدة عابقة بالحب والرحمة على حسابه قائلاً: «رولا: الراحمون يرحمهم الرحمن. شكراً لقصتك الجميلة. شكراً لبلدية دبي. ونسأل الله أن يديم رحمته على هذا البلد الطيب، لا قيمة لأية حضارة بدون قِيَم، قيمٍ تعطينا معنى الإنسانية».

إنّ الله تعالى كتب على نفسه الرّحمة تفضُّلاً منه على عباده: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وإذا أراد الله أن يُسعد عبداً من عباده ملأ قلبه بالرّحمة حتى يكثُرَ خيرُه ويعظُمَ أجرُه، وتُرفع درجتُه وتُكفَّر خطيئته وتزدادَ حسناته.

إنّها الرّحمة الّتي إذا دخلت إلى القلوب اطمأنت وانشَرَحَتْ، وإذا رأتْ خيراً أسرعت إليه وسابَقَتْ؛ مَن دخلت عليه الرّحمةُ في قلبه صار ليّن القلب يَهِشُّ لطاعة الله، ويَبِشُّ في مرضاة الله، تجده يتسابق إلى كلّ خيرٍ رجاءَ أن يرحمَه الله؛ إنّها الرّحمة الّتي قامت عليها قواعدُ الإسلام وكيف لا والرسول العظيم، صلى الله عليه وسلّم، بُعث رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، كيف لا وقد انتشرت دعوته المباركة بفضل ما أودعه الله فيه من خصال الرّحمة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

إنّها الرّحمة الّتي إذا سكنت قلب إنسان رحمه الله في الدّنيا والآخرة، رحمه الله في الدّنيا فوفّقه إلى الإيمان والطاعات، وهيّأ له الأعمالَ الصالحات، وأبعده عن المعاصي والسيئات، ولطف به في النكبات، وأحاطه بلطفه وأسبغ عليه من الرّحمات، ورحمه كما رحم المؤمنين والمؤمنات: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، ورحمه عند موته، فلَطَف به في السّكرات، وأجْمَلَ له وأحسنَ إليه في الخاتمات، قال بعض أهل العلم: أشهد أنّي ما علمتُ إنساناً رحيماً فساءت خاتمته.

والمرحوم الّذي مُلِئ قلبه بالرّحمة قريرُ العين عند ربّه حتى في آخر لحظات عمره، وإذا أسكن الله الرحمةَ في قلب عبده؛ رحمه في لحده ورَحِمَه في قبره، وسخّر له ألسنة عباده المؤمنين والمؤمنات بالدّعاء له يطلبون له المغفرة والرّحمة، كم من رحماءَ سكنوا القبور، حملوا معهم بُشرى ما قدّموه من القول والعمل، ماتوا وما ماتت مكارمهم، ماتوا وأتبعهم الله بصالح الدعوات من المؤمنين والمؤمنات، فكم من يتيم ومحروم شملوهم برحمتهم في الدنيا، يسألون الله أن يجعل مضاجعهم مضاجع الرَّوح والريحان، وكم من أرملةٍ شملوها برحمتهم ترفع أكُفَّها إلى الله داعية لهم بالخير والرّحمة والنعيم والقرار في أعلى الجِنان.

إنّها الرّحمة الّتي ينبغي للمسلم أن يتخلّق بها، وأن يكون من أهلها، وأن يعلم يقيناً أنّ الله تعالى لا يوفّق للخير إلا من أحبّه، ولذلك قال العلماء: إنّ السعي في حوائج النّاس لا يكونُ إلا بقوّة الإيمان ورجاء ما عند الله سبحانه وتعالى، ولن تجد إنساناً حريصاً على إسداء الخير إلى النّاس وتفريج كرباتهم، والعطفِ عليهم وإدخال السرور إلى قلوبهم ورفع حوائجهم إلى ولاة الأمر وأهل الخير إلا مؤمناً يرجو اللهَ والدّار الآخرة.

وإذا كانت صفة الرّحمة قد تجلّى بها المولى عزّ وجل، وتحلّى بهذا الخلق الكريم سيّدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلّم؛ فإنّ الله ورسوله الكريم، صلى الله عليه وسلّم، حثّا أهل الإيمان على التحلّي بهذا الخلق الرّفيع: قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}، وقال صلى الله عليه وسلّم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

وإذا كان التاريخ قد حفل بعظماء عُرفوا بالرحمة ؛ فلشيخنا صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، القدح المُعلّى في هذا الجانب، وسيرته العطرة زاخرةٌ بمواقفه الإنسانيّة الخالدة الشاهدة على ذلك، وها هي ألسنة الخلق تلهج بالدعاء له صباح مساء أن يحفظه الله ذخراً للعباد والبلاد، وأن يبارك فيه وفي عمله وفي ذرّيته، وأن يجزيه خيراً على ما يبثّه من قِيَم، وما ينشره ويحضّ عليه من أخلاقٍ فاضلة، وأن يتولّى جزاءه بالفضل العميم نظير ما يقدّمه من مبادرات الخير والعطاء والإنسانيّة في كافّة أنحاء المعمورة.

سلامٌ على دبيّ لؤلؤة الوطن، مدينة الخير والعطاء، سلامٌ عليها وهي تحتضن في جنباتها أروع معاني الإنسانية، وأصفى تجليات الخير، وسلامٌ على فارسها وعاشقها الذي بناها منارة للعطاء والإبداع، فماست بين المدائن كما تميس الظبية العنود بين الظباء الفاتنات.

 

Email