خبراء: مواجهة الفيروس غيّرت سلوكيات وأنعشت الحضن الأسري وطقوس القراءة

جائحة «كورونا» كرّست قيم التضامن والعادات الأصيلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

فرضت جائحة فيروس «كورونا» المستجد «كوفيد 19» عادات جديدة على حياة المجتمعات بمختلف شرائحها، لكنه عزز قيم التضامن والتطوع والانتصار للحياة وأعاد العادات الأصيلة إلى الممارسة مجدداً وعلى رأسها القراءة والمطالعة، وتقرب الأب من أفراد أسرته والمساعدة في الأعمال المنزلية والارتباط بالعائلة وغيرها. «التباعد الجسدي» أو الاجتماعي مصطلح درج في الآونة الأخيرة عقب تفشي الفيروس حول العالم، وألزم الناس بالبقاء في منازلهم، للحيلولة دون الإصابة بالفيروس، الأمر الذي خلق نوعاً من السلوكيات المستجدة، فضلاً عن أن الإجراءات الاحترازية ضد تفشي «كورونا» أعادت الآباء إلى حضن الأسرة، وأحيت فكرة التجمع الأسري على الوجبات الغذائية الثلاث، ومشاهدة نشرات الأخبار الرئيسية مجتمعين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو، هل ستظل هذه السلوكيات ممتدة ما بعد «كورونا»؟ أم أنها مجرد تفاعلات لحظية وليدة الأزمة؟

«البيان» وضعت التساؤل على طاولة المختصين للإجابة عليه، حيث يقول حريز المر بن حريز المدير التنفيذي لقطاع التنمية والرعاية الاجتماعية في هيئة تنمية المجتمع بدبي: الطارئ الصحي أعاد الدفء إلى قيم التآزر الأسرية وعزز من الحضور الأسري، خصوصاً حضور الأبوين داخل الأسرة.

تعايش مع الأزمة

وتابع: هناك بعض العادات المجتمعية التي كانت تعلو أصواتنا قبل جائحة «كورونا»، للتحذير من مغبة التمادي فيها مثل المباهاة بمهور العرائس وتكاليف حفلات الزفاف والبذخ الذي كانت تشهده، فيما أجبرت الأزمة الصحية الجميع على الاكتفاء بالاحتفال عن بعد وتقبل التهاني والتبريكات عن بعد وعدم إقامة حفلات مكلفة، كنوع من التعايش مع الأزمة عوضاً عن الانتظار لحين انتهائها وإقامة حفل.

وأوضح أن العروس أصبحت تكتفي بارتداء فستان الزفاف والجلوس مع عريسها خلف كوشة افتراضية بتقنية الواقع المعزز الافتراضي لأغراض التصوير والاحتفاظ بهذه الذكرى السعيدة، بحضور أهل العروسين فقط، كما أن الدعوات للعرس أصبحت إلكترونية ويذكر العروسان فيها أنهما سيكتفيان بالتهاني الإلكترونية أو الهاتفية تجنباً لتفشي فيروس «كورونا» المستجد، وهذه كلها عادات اجتماعية مستجدة لم يكن المجتمع يتقبلها في السابق، كما أنها خففت الكثير من الأعباء عن كاهل العريس، حيث تتراوح المبالغ التي وفرها ما بين 300 إلى 500 ألف درهم تكاليف الزواج والتي تشمل القاعة والحفل والعشاء وغيرها من التكاليف المتعلقة بليلة الزفاف.

وأشار إلى أن الشباب الذين ضيعوا سنوات من عمرهم لادخار تكاليف الزواج، مكنتهم الجائحة التي فرضت الزواج الافتراضي، من إنفاق هذه المبالغ في بناء أو شراء بيت العمر وهي الخطوة الثانية للزواج عوضاً عن التعويل على مؤسسات الدولة وتكليفها فوق طاقتها. ويرى ابن حريز أن مثل هذه العادات لاقت قبولاً من الكثير من العائلات ويعتقد بأنها ستمتد فيما بعد انتهاء الوباء المستجد، وربما تقتصر لاحقاً الأعراس على محيط ذوي العروسين والمقربين منهما فقط، فعوضاً عن أنها كانت تستوعب 600 شخص ستقتصر على 100 شخص نظراً للوعي الذي تكون لدى العائلات في فترة «كورونا». وأضاف أن العلاقات الزوجية ستكون أكثر إيجابية لأن الأب أصبح يعي أكثر بمتطلبات واحتياجات الأسرة خلال فترة عمله من المنزل، وأن التوتر الذي كان في الماضي كان بسبب عدم وجود فرصة للتواصل مع الأسرة بسبب عمل الأب لساعات طويلة خارج المنزل.

جنائز افتراضية

وأوضح أن انتشار فيروس «كورونا» الذي اجتاح العالم فرض عادات اجتماعية جديدة لم يعتادوها، مثل الجنائز الافتراضية وتقديم العزاء ووداع الأهل لأحبائهم قبل الذهاب إلى مثواهم الأخير عن بعد.

مبالغ طائلة

ومن ناحيتها تقول ناعمة الشامسي رئيس قسم الأسرة والشباب بهيئة تنمية المجتمع بدبي ومستشارة نفسية وأسرية وزوجية: إن الأسر التي تفكر بأسلوب خاطئ ورجعي مفاده بأنها لا بد أن تحمل الزوج وتكبده مبالغ طائلة وتغرقه في الديون لكي يعي قيمة ابنتهم وبالتالي يجبرونه على المحافظة عليها، لا يفيد، لأن الزوج إذا أراد أن يتزوج بأخرى أو أن يطلق الأولى لن يمنعه شيء، مؤكدة أن تقدير الزوجة لا يكون بقيمة المبلغ الذي ينفقه عليها.

وقالت: إن بعض الحالات الأسرية التي لجأت إلى الهيئة تبين أن العرس تكلف ما يقارب المليون درهم ولم يشفع ذلك للحيلولة دون انفصال الزوجين. وذكرت واقعة لعائلة طلبت من زوج ابنتهم أن يبني لها ملحقاً مستقلاً في منزل ذويه، ثم فاجأوه بأن اكتفوا بحفل عقد القران ولم يكبدوه تكاليف حفل زفاف إضافي، الأمر الذي أثر إيجابياً في نفس العريس وقدر لهم موقفهم النبيل، مشيرة إلى أن هذه الواقعة حدثت قبل بدء أزمة «كورونا» مباشرة.

وقالت إن الزواج كان يمثل بالنسبة للشباب من ذوي الدخل المحدود حلماً صعب المنال بسبب هذه التكاليف التي لا يقوى على توفيرها براتبه المتواضع، فضلاً عن أنه كان يقابل في كثير من الأحيان بالرفض من قبل بعض العائلات لعدم قدرته على توفير متطلبات الزواج، فيضطر لقضاء سنوات شبابه في ادخار المبلغ اللازم لزواجه، فيما ساعد الوضع الحالي للجائحة الشباب على تحقيق أحلامهم في تكوين عش الزوجية من دون انتظار سنوات طويلة أو تكبد ديون طائلة تنغص عليهم سعادتهم وفرحتهم بتكوين أسرة.

دروس إيجابية

من جهته يقول الدكتور ناصر البلوشي كبير الباحثين في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي: إن بعض التغيرات الاجتماعية في زمن جائحة «كورونا» قد تمتد فيما بعد انتهاء الجائحة عند بعض أفراد المجتمع، فالاجتماعات التي كانت تعقد عن قرب سواء أكانت لغرض العزاء أو الفرح قد تتحول إلى مناسبات تعقد عن بعد، أو يقتصر فيها على الحد الضروري لاكتمال المناسبة كما حدث في زمن الجائحة.

وتابع: أن مجالس العزاء وحفلات الزواج والتخرج والولائم وغيرها، التي كان يقيمها الناس عن قرب، وتكبدهم الكثير من الأموال والنفقات، قد تتحول عند غير القادرين على تحمل هذه النفقات إلى عقدها عن بعد، أو الاقتصار على دعوة المقربين فقط، وذلك لما لاحظه بعض الناس من إيجابيات من هذا التحول، إذ على سبيل المثال، اتضح من خلال إقامة حفلات الزواج في زمن الجائحة تخفيف الجهد والوقت وتوفير الكثير من الهدر المالي الذي كان يصرف في ترتيب هذه الحفلات. فمن الممكن الاستفادة من الدروس الإيجابية من هذه الجائحة، بتيسير الزواج أمام الشباب وتقليل الهدر المالي في الكماليات والمظاهر المتكلفة التي تعارف عليها الناس، والتي لا تعود بالضرورة على الحياة الزوجية بالنفع، بل قد تكلف الزوجين ديوناً تؤثر في ديمومة حياتهما الأسرية، بينما يمكن استثمار هذه المبالغ في توجيهها إلى ضروريات وحاجيات الحياة الأسرية.

ثقافة جديدة

ويقول جاسم المرزوقي استشاري العلاج النفسي: إن الحجر الصحي لن يتسبب في حدوث عزلة اجتماعية بين الناس مستقبلاً لأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يسعى دائماً لخلق علاقات اجتماعية جديدة والتواصل مع الآخرين بشتى السبل، وأن يحظى بالقبول.

وأشار إلى أن التزام الناس بمنازلهم سينتج ثقافة جديدة سواء على المستوى الصحي أو السلوكي أو على مستوى التعامل مع الآخر من خلال تجاوز بعض السلوكيات مثل العناق المبالغ فيه والتحية بالقبلات وغيرها، مشيراً إلى أن الجائحة تتجه لفرض تحولات اجتماعية وانقراض السلوكيات المرتبطة بالسلام وتبادل التحيات و«حب الخشوم» والسلوكيات المتعلقة باللمس.

وقال: إن التواصل باللمس ينقل الطاقات الإيجابية أو السلبية بين الناس ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم، «من مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات»، في إشارة إلى أن التواصل اللمسي مهم، لذا يجب الحرص عليه بين الأقارب من الدرجة الأولى لاسيما مع الأطفال حتى ينشأوا النشأة السليمة.

وأضاف أن بعض التمثلات الذهنية للفرد الخليجي وكذلك بعض سلوكياته من العسير أن تتغير خاصة في المناطق البدوية المحافظة التي تلعب فيها الثقافة والتقاليد دور المؤطر للبنية الاجتماعية، كتبادل التحيات والسلام والاجتماع.

طقوس مهجورة

ويرى الدكتور رشاد سالم رئيس الجامعة القاسمية بالشارقة، أن الجائحة أعادت بعض الطقوس المهجورة وعلى رأسها القراءة والمطالعة، بعدما أصبح الكتاب خير جليس في زمن الوباء، فضلاً عن التزام البيوت والمساعدة في الأعمال المنزلية والارتباط بالعائلة وغيرها. وأضاف أن الكتب كانت أفضل وسيلة للترويح عن النفس والسفر عبر العالم والعوالم المختلفة، واكتشاف الذات من جديد ومحاولة رسم ملامح جديدة للحياة، خلال فترة الحجر المنزلي، وبالتالي ستترسخ أهمية القراءة لدى الأبناء وذويهم خلال المرحلة المقبلة.

ثقافة سائدة

ومن ناحيته، يقول الدكتور سامر عبد الهادي أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة الفلاح، إن التغير الاجتماعي هو التحول في السلوكيات والنظام الاجتماعي الذي اعتاد عليه الناس في المجتمع من خلال إحداث التوافق المطلوب والتكيف والتنوع في السلوكيات والعلاقات والتفكير، حيث يؤدي التغير الاجتماعي إلى زيادة الوعي والمزيد من الفهم نتيجة توفر المزيد من المعلومات في المجتمع.

وأضاف الدكتور عبد الهادي أن السلوكيات الاجتماعية الجديدة المبنية على التباعد الاجتماعي بسبب أزمة «كورونا»، والإقلال من الحركة الحيوية وتفعيل التواصل الإلكتروني، والاستعاضة عن النشاطات الاجتماعية التقليدية باجتماعات افتراضية عبر الإنترنت وغيرها من وسائل التكنولوجيا هو تغير كبير في سلوكيات المجتمع لاقى استحساناً كبيراً في مجتمع في دولة الإمارات العربية المتحدة.

وأشار إلى أنه بالاستناد إلى علم النفس يبدأ التغير الاجتماعي من خلال التغير الشخصي والذي يقود إلى الالتزام المطلوب والدافعية المطلوبة لتحقيق التغير في الجماعة والمجتمع.

وأضاف أن النجاح في تحقيق التغير الاجتماعي المطلوب واستمراره في سلوكيات الأفراد حتى ما بعد «كورونا» يعود إلى عدد من العناصر أهما تعديل الثقافة السائدة في المجتمع حتى تتحقق عملية التغير الاجتماعي، بالإضافة إلى مشاركة أفراد المجتمع في هذا التحول وتشكيل التعديلات والتغير من أجل ضمان تعاون هؤلاء الأفراد والتزامهم، كما أن التربية البيئية والتعلم، لهما دور كبير حتى يحصل الأفراد على معلومات قيمة تشجعهم على التفكير بأهمية هذا التغير وبأن يشاركوا في عملية التغير والمحافظة على الاستدامة، وفي النهاية لا بد من البحث الاجتماعي والذي يشتمل على أعضاء في المجتمع يعملون على جمع المعلومات من المجتمع ذاته تلك المعلومات التي تتطلبها عملية التغيير في التفكير والسلوكيات.

Email