لماذا يحتاج العالم مجالس المستقبل العالمية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

 في منتصف أربعينيات  القرن الماضي، وبعد أن أفاق العالم من الحرب العالمية الثانية، أدركت الكثير من الدول حاجتها ليس فقط إلى بناء الحاضر، بل أيضاً التخطيط لمستقبل يضمن حياة أفضل وأكثر استقراراً للبشرية، وظهرت تساؤلات هامة حول قدرة العالم على التعامل مع تغيرات مثل ارتفاع درجة حرارة الأرض، ونقص المياه والغذاء، والتضخم السكاني، وآثار الصناعات والتكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية والنواحي النفسية والعقلية للبشر.

وشهدت الجامعات إقبالاً على الدراسات المستقبليّة، وتم إنشاء العديد من مراكز البحوث المستقبليّة، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على بداية هذه الجهود العلمية لاستشراف المستقبل، إلا أنها ظلت حبيسة المؤلفات الأكاديمية، لافتقادها محركأ هاماً ومنصة عالمية تجمع جهود علماء المستقبل ومستشرفيه، وتدفع بأفكارهم وقراءاتهم المستقبلية إلى الحكومات والمجتمع الدولي للعمل بها، والاستعداد معاً للمستقبل.

فجاءت فكرة تشكيل "مجالس المستقبل العالمية" من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي، لتوفر فرصاً غير مسبوقة لتبادل الخبرات والتجارب والتواصل بين علماء ومفكري ومستشرفي المستقبل، وبين صناع القرار حول العالم. وكانت حكومة دولة الإمارات على رأس الحكومات السباقة الداعمة والمشاركة في هذه المجالس المستقبلية، وبدأت الشراكة الاستراتيجية بين حكومة الإمارات والمنتدى الاقتصادي العالمي في تنظيم اجتماعات مجالس المستقبل العالمية، وتواصل فعاليات هذه المجالس للعام الرابع في دبي يومي 3 و4 نوفمبر 2019.
تمثل استضافة حكومة دولة الإمارات لاجتماعات مجالس المستقبل العالمية رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وقيادات الدولة، بأهمية توحيد الجهود والشراكات العالمية لخدمة البشرية، من خلال منصة عالمية لتحليل التوجهات المستقبلية والتحديات والفرص التي تواجهها البشرية، وتجمع هذه المنصة مفكري وعلماء العالم من جهة وأصحاب القرار وصانعي السياسات من جهة أخرى، لتبني الحلول والأفكار الملهمة في مختلف القطاعات.

يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، "نفخر بإسهامات دولة الإمارات في تعزيز رحلة البشرية إلى المستقبل، وتسهيل عملية الانتقال إليه والاستفادة من أدواته، ونعمل بكل جهد لبناء قدرات الأجيال على المهارات التي يتطلبها العيش فيه، واستضافة مجالس المستقبل العالمية أحد محاور رؤيتنا لدور دولة الإمارات العالمي في تطوير ظروف المجتمعات الإنسانية نحو الأفضل، وانعكاس لطموحنا وعملنا المتواصل لتحقيق الخير للناس".
وقد وصل عدد المشاركين في مجالس المستقبل العالمية في 12 عاماً إلى قرابة 10 آلاف مستشرف من نخبة رواد الفكر والخبراء والمتخصصين والمسؤولين الحكوميين من أكثر من 100 دولة، غطوا مختلف قارات العالم في أكثر من 800 مجلس، تبحث سبل مواجهة التغييرات الجذرية المتسارعة التي ستشهدها الاقتصادات والمجتمعات والسياسات العالمية، في تجمع وحد العالم على أرض الإمارات. 

نظرة على "مجلس مستقبل الاستهلاك" 


يعد "مجلس مستقبل الاستهلاك" من بين عشرات المجالس الهامة والفريدة في تخصصها ونظرتها التحليلية لمستقبل البشرية، فأعضاء هذا المجلس من مفكرين وصانعي قرار، يبحثون في أنماط الاستهلاك الحالية والمستقبلية، بهدف ضمان مستقبل آمن للبشرية، تتوفر فيه الاحتياجات الأساسية للبشر، فنرى مجتمعاتنا الإنسانية بلا مجاعات، أو نقص في المياه والدواء، وغيره. 
وبينما تشير الإحصائيات الدولية للأم المتحدة لعام 2018 أن هناك أكثر من 821 مليونا شخصا في العالم يعانون من نقص التغذية 2018، وهذا يعني أن شخصا واحدا من بين تسعة الناس لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء ليعيشون حياة نشطة وصحية، يجتمع "مجلس مستقبل الاستهلاك" ليبحث في بدائل تكنولوجية جديدة لمواجهة نقص الموارد وتجنب أي مجاعات في المستقبل مع الزيادة المتوقعة في التعداد السكاني للعالم.

"مجلس مستقبل الصحة والرعاية الصحية"  


يعد "مجلس مستقبل الصحة والرعاية الصحية" واحد من مجالس المستقبل الهامة الأخرى التي تعمل على إيجاد أفضل السبل والحلول التي تضمن رعاية صحية متكاملة للأفراد بأقل الأسعار وأفضل الخدمات، وتبحث عن صناعة أنظمة صحة جديدة تتمثل في الرعاية المنزلية، الطب الدقيق، وتهيئة خدمات للأفراد من خلال نظام من الرعاية الصحية المتكاملة.


تأتي جهود المجلس استجابةً لقراءة مستقبلية تحذر من أن خمسة مليارات نسمة لن يحصلوا على رعاية صحية في 2030 وفقا لتقرير منظمة الصحة العالمية، حيث ينفق العالم نحو 7.5 تريليون دولار سنويًا على قطاع الرعاية الصحية. ورغم ذلك فأن الخدمات الصحية الأساسية تغطي بالكاد نصف سكان العالم. يبحث أعضاء "مجلس مستقبل الصحة والرعاية الصحية" سبل توفير الرعاية الصحية المتكاملة لسكان العالم من خلال حلول ذكية وتشاركية بين القطاعات المختلفة المعنية بالصحة.

"مجلس مستقبل التجارة والاستثمار العالمي"


يعكف "مجلس مستقبل التجارة والاستثمار العالمي" على مناقشة التحديات والضغوط التي تواجهها منظومة التجارة حول العالم، والبحث عن الأسباب الرئيسية للنزاعات التجارية واقتراح الحلول لها، وتطوير السياسات بعيدة الأثر لضمان الاستجابة بصورة مناسبة لقضايا التحول الرقمي، والاستدامة البيئية، والتفاوت الاقتصادي.


وبينما يناقش المجلس التحديات التي تواجه مستقبل التجارة العالمية، ينظر أيضاً في إمكانية تطوير قوانين دولية موحدة لتنظيمها، كما تركز مباحثات المجلس على إمكانية وجود طرق تجارة جديدة في العالم، مثل طرق التجارة المستقبلية عبر المحيط المتجمد الشمالي. ويقدم المجلس حلولاً جديدة ومتنوعة تساعد صانعي السياسات على قراءة وفهم التحديات الاقتصادية الإقليمية والعالمية، والعمل معاً لخلق رؤية ومستقبل آمن للتجارة والاستثمار حول العالم. 


كيف ستطعم التكنولوجيا البشرية؟
حكومة الإمارات ومجالس المستقبل تطرح الإجابات

لعقود طويلة ومن جيل إلى آخر، حرصت العائلة الريفية التي تسكن إحدى قرى الصين البعيدة، وتمتلك مساحات واسعة من الأراضى الزراعية على زيادة انتاجية اراضيها، وتنوع وصحة محاصيلها، وشهدت أجيال من العائلة تطور أدوات الزراعة والري، مروراً بأكثرها بدائية إلى أكثرها حداثة واستخداماً للتكنولوجيا، ومع التغيرات البيئية التي تشهدها مناطق كثيرة من العالم، زادت التحديات أمام العائلة، فاضطراب الطقس من جهة، وظهور آفات زراعية دخيلة من جهة أخرى، وهجرة الأيادي العاملة من القرى إلى المدن الكبيرة، أثرت بشكل سلبي على مصدر رزق العائلة، وسلة غذاء عدد كبير من سكان المناطق المحيطة بها.

وكما أدركت العائلة حجم وصعوبة التحديات التي تواجهها، أدركت أيضاً أن التطورات التكنولوجية المتلاحقة ستقدم حلولاً ذكية لهذه التحديات، وتحولها إلى فرص، وتأكدت من ذلك عندما قام أحد مهندسي الكمبيوتر الشباب من سكان المنطقة، بتطوير أدوات ما يعرف ب "الزراعة الدقيقة" باستخدام طائرات ذاتية القيادة، تقوم هذه الطائرات بمهام زراعية كبيرة، كمكافحة الآفات ومراقبة التربة والمحاصيل، في زمن قياسي، مقارنة باسابيع طويلة من العمل اليدوي الشاق، كما تقوم هذه الطائرات بجمع البيانات الزراعية الذكية، ومساعدة المزارعين على توقع احتياجات أراضيهم، والتنبؤ بالتغيرات والتعامل معها.

مفهموم الزراعة الذكية

تقدم منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تعريفاً لمفهموم الزراعة الذكية يرتبط بالتغير المناخي، وتطلق عليه "الزراعة الذكية مناخياً"، والمقصود بها توظيف الأدوات التكنولوجية لتحويل وإعادة توجيه النظم الزراعية لدعم التنمية بصورة فعالة وضمان الأمن الغذائي في وجود مناخ متغير، من خلال الاعتماد على نظم إدارة وتحليل البيانات لاتخاذ أفضل قرارات الإنتاج الممكنة، بأقل التكاليف، وكذلك ربطها عبر الإنترنت بأجهزة ذكية في متناول الجميع كالهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الشخصية التي يسهل استخدامها في أي مكان، وتمكن المزارعين من الحصول على خرائط تفصيلية للأراضي الزراعية، مزودة ببيانات دقيقة حول الطقس، وغيرها من المتغيرات.

فكما أدركت الحكومات جيداً ما تقدمه التطورات التكنولوجية المتلاحقة من فرص عديدة لتسهيل الخدمات والتواصل، والارتقاء بصحة البشر، وتعزيز فرص التعليم، تأتي هذه التكنولوجيا بتقنيات الزراعة الدقيقة والذكية، لتقدم حلولاً للتحديات، تتجاوز معها معوقات زيادة الانتاجية الزراعية، لتلبية احتياجات ملايين من البشر في تزايد كل يوم. فمن المرجح أن يصل عدد سكان العالم إلى 10 مليار نسمة بحلول العام 2050، ومع هذه الزيادة سيرتفع الطلب العالمي على المنتجات الزراعية بنسبة 50% مقارنة بالمستويات الحالية.

واستعداداً للتعامل مع التحدي القادم إلى العالم خلال سنوات، تتعاون حكومة الإمارات على مستويات إقليمية ودولية لتوظيف التكنولوجيا المتقدمة لتحقيق استدامة الإنتاج الغذائي. وتطرح تساؤل " كيف ستطعم التكنولوجيا البشرية؟ على الأجندة المشتركة لحكومة دولة الإمارات ومجالس المستقبل العالمية التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، والتي تستضيف دبي اجتماعاتها السنوية على مدار يومين في 3-4 نوفمبر 2019، بمشاركة أكثر من 700 مستشرف وعالم وخبير ومسؤول ورائد أعمال، في 41 مجلساً متخصصاً.

 


"تحدي تكنولوجيا الغذاء العالمي"

وفي خطوات استباقية للإجابة على تساؤل " كيف ستطعم التكنولوجيا البشرية؟ أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي "تحدي تكنولوجيا الغذاء" والذي يعد الأكبر من نوعه عالمياً، ويهدف إلى تشجيع المبتكرين في هذه المجال على تطوير حلول ذكية لإنتاج وإدارة الغذاء في الدولة وعالمياً، وتوظيف التكنولوجيا المتقدمة في إيجاد أدوات وتقنيات تتميز بالكفاءة والفعالية للتغلب على تحديات القطاع الزراعي، بما يحقق استدامة الإنتاج الغذائي في دولة الإمارات لتكون مركزاَ عالمياَ رائداَ للأمن الغذائي.

يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "إن تحدي تكنولوجيا الغذاء سيفتح أفقاً لتعاون إقليمي وعالمي لخلق رؤية موحدة تجاه الأمن الغذائي العالمي، ونتطلع إلى أن تكون الإمارات قلب هذه الرؤية، وإن تحقيق الأمن الغذائي يُشكّل ركيزة أساسية لاستمرار التنمية".

يتوافق "تحدي تكنولوجيا الغذاء العالمي" مع مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي التي أطلقتها حكومة الإمارات في 2018، والتي تهدف إلى تطوير منظومة وطنية شاملة تقوم على أسس تمكين إنتاج الغذاء المستدام، وتحدد عناصر سلة الغذاء الوطنية، بما يتوافق واحتياجات دولة الإمارات ضمن رؤية مستقبلية، تتعامل مع التحديات العالمية البيئية والمناخية.

ويهدف "تحدي تكنولوجيا الغذاء" كذلك إلى جذب وتشجيع الشركات والأفراد والمؤسسات العلمية والبحثية في الإمارات ومختلف دول العالم، لتوظيف التكنولوجيا المتقدمة في تطوير أفكار مبتكرة وأدوات فعّالة لإنتاج الغذاء، وإيجاد حلول خلّاقة لمختلف التحديات المحلية التي تواجه القطاع الزراعي والإنتاج الغذائي.

الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي

هذا وكانت حكومة دولة الإمارات قد أطلقت الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي ضمن الدورة الثانية من الاجتماعات السنوية لحكومة دولة الإمارات 2018. وتهدف الاستراتيجية إلى تطوير منظومة وطنية شاملة تقوم على أسس تمكين إنتاج الغذاء المستدام. تتضمن الاستراتيجية 38 مبادرة رئيسة قصيرة وطويلة المدى، ضمن رؤية عام 2051، وأجندة عمل لعام 2021، وتعمل من خلال عدة توجهات استراتيجية تركز على تسهيل تجارة الغذاء العالمية، وتنويع مصادر استيراد الغذاء، وتحديد خطط توريد بديلة.

ومن بين الأهداف التي تسعى الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي لتحقيقها أن تكون دولة الإمارات الأفضل عالمياً في مؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول عام 2051، وضمن أفضل 10 دول بحلول عام 2021، إلى جانب تطوير إنتاج محلي مستدام، وتوظيف التقنيات الذكية في إنتاج الغذاء، وتفعيل المبادرات لتعزيز قدرات البحث والتطوير في مجال الغذاء، و الحد من فقد وهدر الغذاء من خلال تطوير منظومة متكاملة لخفض نفايات الطعام ضمن سلاسل التوريد، وضمان سلامة الغذاء وتحسين نظم التغذية.

 

Email