ثقافة المواجهة والتجاوز

سلطان العلماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

استقبالاً لعامٍ جديد من العطاء والإنجاز، وجّه صاحبُ السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، سِتّاً من الرسائل القصيرة إلى مواطني دولة الإمارات: إخوةً وأخوات، هي في جوهرها خارطة طريق آمنة تُصحّح الأخطاء، وتنتقد التقصير، وتنتصر للإنجاز، وتستحثّ الهِمَم، وتضع النقاط على الحروف، ثم تفتح نوافذ الأمل الواسعة، وتستنهض الطاقات الفاعلة، وتُعيد ترتيب حقيبة الإنجاز الوطني نحو أُفقٍ عالٍ ورحبٍ أصبح جزءاً من كينونة الإمارات، وتُنعش ذاكرة الأبناء بجهود الآباء العظيمة التي أوصلت الوطن إلى هذه المنزلة المتقدمة بين شعوب العالم.

الرسالة الأولى مُشبعة بروح النقد للأداء الإداري الذي يقتصر على المكاتب ولا يعرف الطريق إلى الميدان، حيث تعلو نبرةُ صاحب السموّ في نقد هذا النهج وتوجيهه نحو العمل الميداني الذي يستمع إلى نبض المواطن، ويتحسّس هموم الإنسان، وتستعيد به الإمارات نمطاً من الإدارة المباشرة كان هو المنهج السائد منذ أيام القائدَيْن الخالدين: زايد وراشد اللّذين كانا نموذجاً يُحتذى في هذا النمط من السياسة الرشيدة، كما نجده مبسوطاً وبأريحية تامة فيما كتبه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد من معالم النضج الإداري عند هذَين القائدين في كتابه الثمين «قصتي»، حيث نثر كثيراً من الدّر النافع اللامع وهو يضيء هذه الزوايا من سيرة هؤلاء الرجال العظام الذين بنَوا هذا الوطن الجميل بالسهر والتعب والقُرب من الإنسان الذي هو شجرة الوطن وثمرته، مؤكداً سموّه أن هذه الإدارة المكتبية التي لا تعرف الميدان ستكون سبباً للترهل وانكماش طاقة العمل والإنجاز.

الرسالة الثانية كانت ضبطاً لهذا الطوفان الذي تعجُّ به وسائل التواصل، ويشوّش الطبيعة المستقرة المسؤولة التي تضبط إيقاع الدولة، وتمارس على أساسه سياساتها، فهي دولةُ الحقائق وليست دولة الشائعات، لأنّ إطلاق العنان لهذه الوسائل ربما كان سبباً للإضرار بسُمعة الإمارات الطيبة التي بناها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيب الله ثراه، المؤسس الباني الذي بنى الوطن على المصداقية والشفافية، ورسّخ سمعة الإمارات كدولة واضحة المعالم والرؤية، تحظى باحترام العالم عن جدارة واستحقاق، فليس من الحكمة تبديد هذا الإرث وتضييع هذا الكنز الثمين الذي لا يُنال بالأحلام وفارغ الكلام.

الرسالة الثالثة كانت بشأن قضية التوطين وضرورة توفير الوظائف للمواطنين باعتبار ذلك أولوية وطنية تتحمل الدولة كامل المسؤولية تجاهها، وترصدُ بعينٍ بصيرة طبيعة الأداء الحكومي إزاءها، وتُقيّم ذلك من خلال الرضا العام للشعب عن هذه القضية الهامّة التي تمنحها الدولة ما تستحقه من عناية واهتمام، مؤكداً سموّه أن توفير الوظائف للمواطنين الإماراتيين ملفٌّ ذو أولوية سيحظى بمتابعة حثيثة ومساءلة تضمن تنفيذَه على أكمل وجهٍ وأسرع وقت؛ لأن جميع الدول في العالم تمنح مواطنيها أولوية مباشرة في حق التوظيف والإسهام في بناء الوطن والتقدم به.

الرسالة الرابعة اقتصادية بامتياز، تشرح الواقع التقدّمي لطبيعة الاقتصاد الوطني، وأنه بخير وعافية، وأن روح التنافس هي سِمته الأساسية لكن صاحب السموّ لا يريد المواقع المتوسطة بل يريد نقلة اقتصادية استثنائية من خلال أفكار خلّاقة تضخّ في شريان الاقتصاد الوطني مزيداً من دماء القوة والحيوية والنشاط التي تدفع به نحو القمّة، منبّهاً سموّه على ضرورة ضبط إيقاع المشاريع العقارية التي يجب ألا تُصبح في لحظة ما عبئاً على الدولة بسبب الافتقار إلى التخطيط المدروس الذي يلبّي الحاجة ويحتفظ بحيويته وقدرته على الصمود والتقدم نحو الأمام.

الرسالة الخامسة هي التي استوحينا منها عنوان هذه الكلمة: ثقافة المواجهة والتجاوز ولو أضفنا إليها هنا الحسّ الأخلاقي في إدارة الدولة لكان ذلك أكثر دقّة وصواباً، حيث يؤكد صاحب السموّ أن هناك تقصيراً في مواجهة المشكلات الحقيقية للناس، وافتقاراً إلى الشجاعة أحياناً لتنفيذ المهمة الجوهرية التي تقوم عليها فلسفة الحكومة وهي خدمة الناس، والتقدم بالمجتمع، مؤكداً سموّه على وجود التحديات لكن الحل لن يكون بالهروب من هذه التحديات بل يطالب صاحب السموّ جميع المؤسسات بمواجهة واضحة لجميع المشكلات لأن المؤسسة التي تهرب من المواجهة هي بحسب توصيف صاحب السموّ مؤسسةٌ فقدت الثقة بنفسها، بل لابد من احترام مطالب الناس من خلال ثقافة رائعة هي سَعة الأخلاق والقلوب وليس من خلال سعة الموارد فقط، منبّهاً بهذه الإشارة الذكية إلى النمط الإداري الرائع الذي تميّزت به نشأة الإمارات في عهد البناء والتأسيس، وهذا مَلمح متفرد يلفت إليه صاحب السموّ لأنه يعيشه ويُعايشه ويقطف ثمراته الناضجة في سياسته الرشيدة.

أما الرسالةُ الأخيرة السادسة فقد كانت حزمةً من النور والتفاؤل الذي يبعث العزيمة، ويحرّك الطاقات الجمعية للوطن من خلال ضمير الجمع (نحن) ليكون الجميع في قلب المسؤولية، حيث تحتضن الرسالة الأخيرة ثقافة التفاؤل، وتتأسّس على نبرة جازمة واثقة بأن القادم أفضل، لأن الدولة تعرف ماذا تريد وماذا يوجد لديها من رصيد، فهي الدولة التي تملك روح المنافسة، وتستعد للمستقبل، وتتسارع فيها وتيرة النمو على نحو استثنائي، والأهم من ذلك كله أنها تمتلك ثقافة الشجاعة ولا تجد أدنى حرجٍ ولا غضاضة من مواجهة الحقائق، ومراجعة المسيرة وتعديل الاستراتيجيات، ومواصلة السير في طريق آمنٍ نحو مستقبل زاهرٍ يليق بهذا الوطن الطيب المعطاء الذي تأسس بناؤه على الوضوح والصدق والاحتفاء بالإنسان.

سيّدي صاحب السموّ: بإحساس القائد الرائد جاءت رسائلك نوراً ينير لنا طريق بناء الوطن، ونبراساً يقيل العثرات، ويستنهض العزائم، وهذا هو العهد بكم: فارساً شجاعاً، وقائداً جسوراً نتعلّم منه الحكمة والشجاعة ومواجهة الحقيقة، ونستلهم من كلماته أعمق الدروس وأنبل المعاني، فطوبى لوطنٍ يستظل بوارف ظلّك، وينتضي عزائم سيفك، ودمت ودام الوطن عزيزاً بهمّتك العالية ونظراتك الصائبة، وقوافيك التي تبعث فينا الإحساس بالمجد والعطاء.

Email