مغزى مكنون في أريحية اللفظ والمعنى

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتحداكم أيها الشعراء، نبطاً وفصحى، أن تبلغوا مبلغ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله.

وأتحداكم أيضا أيها المتفلسفون أن تدركوا كـُنه فلسفة سموه، وقد قلت لكم بأنه ملاّح ماهر، خبر أعماق الحياة بغواصات فهمه، ومراصد بصيرته الثاقبة، وحسه القادر على قراءة الشيء قبل أن يكون، وعلى المبادرة بالشيء قبل أن يطلب منه.

لا أقول إنه يعلم الغيب كلا، بل أوتي فراسة المؤمن الذي ينظر بنور الله، فهو عندما يكتب شعره ولا سيما الألغاز الشعرية التي برع فيها سموه حتى أفحم البارعين من شعراء النبط والفصحى، يكتبها سليقة واقتداراً، لا تصنعاً وافتخاراً.

لذلك فإن امرئ القيس الشاعر الأول في الجاهلية، لو كان حيّا اليوم وألقى قصيدة في الألغاز لما كان له إلا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ليرد عليه، لأن كلاهما تربع على مملكة الشعر، ولبس تيجان البلاغة وقلنسوة البيان.

ويروى أن عبيد بن الأبرص الشاعر المعروف ألقى قصيدة على امرئ القيس، وما أدراك من امرؤ القيس، بعد أن قال له: كيف معرفتك بالأوابد؟ فرد عليه امرؤ القيس قائلاً: ألق يا عبيد ما عندك، فقال عبيد ملغزا:

ما حبة ميتة أحيت بميتتها

درداء ما أنبتت سنا وأضراسا؟

فرد عليه عفريت الشعراء امرؤ القيس، قائلاً:

تلك الشعيرة تسقى في سنابلها

فأخرجت بعد طول المكث أكداسا

فقال عبيد:

ما السود ما البيض والأسماء واحدة

لا يستطيع لهن الناس تمساسا؟

فرد امرؤ القيس:

تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها

روى بها من محول الأرض أيباسا

فقال عبيد:

ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر

ولا لسان فصيح يعجب الناسا؟

فقال امرؤ القيس:

تلك الموازين والرحمن أرسلها

رب البرية بين الناس مقياسا

نعم.. هكذا نقرأ للشعراء القدامى اللغز كفن من فنون الشعر والتحدي، وقد جاراهم الشعراء المحدثون من بعدهم، فمنهم أهل اللغة والأدب والشعر، ومنهم الفقهاء والأطباء وغيرهم، ولا يزال المعاصرون في كل بلد، يحاولون إحياء هذا التراث الجميل في الشعر النبطي والفصيح.

لكن العبرة ليست بما يقال، بل كيف يقال وأين يقال، فالشعر له قواعد وضوابط وموازين وميادين، وليس كل من سمى نفسه شاعراً في زمننا أصبح شاعراً، في مفهوم نوابغ الشعر وحكمائه، ولقد صدق من قال:

لا تعرضنّ على الرواة قصيدة

ما لم تكن بالغتَ في «تهذيبها»

فإذا عرضتَ الشعرَ غير مهذّب

عدّوه منك وساوساً «تهذي بها»

أجل.. فإن شاعرية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قد تجاوزت مرحلة النضج، لتصل إلى درجة الكمال والكمال المطلق لله وحده، وقصيدة اللغز عندما يكتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يكتبها وهو واثق بأن الذين يحلّون ألغازه لم يولدوا بعد في معظم الأحايين.

لذلك فإنه يكتب كلمات قصيدته ومفردات ألغازه، بقلب مطمئن وبخطوات واثقة، بأن ألغازه لا تشبه ألغاز الآخرين، وبُعد مراميه لا تلحقه طموحات المراهنين، ومع ذلك فإن سموه لا يخيبهم بل يبعث الأمل في النفوس فيقول:

هــــو لــغــز مــوضــح وخــفـي

حــاضـر غـائـب وفـيـه إرتـيـاب

بمعنى أنه يتحدى الشعراء، ولكن في تواضع جَمّ ومن غير عُجب بالنفس، ويفسح الطريق أمام بعض الموهوبين، فالعالم لا يخلو من قدرات، (ولو خُليت خربت)؟

وإنني أتساءل هنا فأقول: هل من السهل أن يكتب الشاعر مطولة في اللغز من غير تكلف، لقد رأينا الشعراء عندما يلغزون، يلغزون عادة ببيتين أو خمسة مثلاً، كقول بعضهم في مصراعي الباب:

خليلان ممنوعان من كل لذة

يبيتان طول الليل يعتنقان

هما يمنعان الدار من كل آفة

وعند طلوع الفجر يفترقان

ولكن شاعرنا الكبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يمضي ليكتب مطولة بالقوة الفنية نفسها، بل كلما زاد بيتاً توغل في الإبهام والإيهام والإفحام أكثر وأكثر، لأن اللغز عند سموه لا يستقي غموضه من صورة واحدة، بل من صور متعددة، فلا يكاد أحد يفكر في فك بعض طلاسم شعره حتى يقع في طلاسم جديدة، وعندئذ يتشتت وتخور قواه، فيستسلم ويسلّم بأنه لا حل عنده أو ليس متأكداً من حلّه.

وإنني في هذه القصيدة أرى الشاعر الكبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يمهّد للغزه بفعل «بادرتني» وهو للماضي الغائب والحديث عن أنثى، ولكنه في ثنايا القصيدة يتحول إلى مثل قوله:

وعَـجـيـبٌ أخـــوُ غـريـبٍ ولـكـنْ

لايُـحاكي مشيَ القَطاةِ الغُرابُ

ويقول أيضاً:

ولــــه أخـــوة بـأسـمـاء شــتـى

مـــن تـراهـم يـاأيـها الأحـبـاب

هذه القدرة العجيبة في صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، التي مكنته من كتابة مثل هذا اللغز بكل أريحية اللفظ والمعنى، وعلى نمط قصيدة الفصحى التي يقال عنها بأنها غير مطواع مثل القصائد النبطية أو التفعيلة، لأكبر دليل على أنه اليوم هو وحده المستحق أن يكون أمير الشعراء بلا منافس، لأن الإمارة لا تكون إلا للقادر على الإعجاز والإفحام، والعارف بالأوابد.

استطاع شاعرنا الكبير في هذه القصيدة أن يكتب لغزه بأسلوب يناسب كبار الشعراء، ولا ينبهم أيضا على صغار الشعراء، إلا أنه من السهل الممتنع، وفي الوقت نفسه يكتب سموه شعره حتى في الألغاز غنيّا بالمفردات الأدبية الراقية الجميلة مثل: بضّة - انسكاب - رجْع - المِلا والمَلاب - عبقري - تلابيبه - إهاب.

وله أيضا أسلوبه في سرد البديعيات مثل: الذات والملذات، والمُذاب والمُصاب مرتين لكن بمعنيين، وذهب وتراب، والعقل وللعقول، وطاب من طيبه، والمِلا والمَلاب، وعمود وعماد، واعتماد، وحاضر غائب، واللبّ والألباب.

مثل هذا الاستخدام الفني بالألفاظ والعبارات ذات الدلالات البيانية والمعانية والبديعية، لا يستخدمها إلا الممارس المتمرس في قرض الشعر، والمتبحر في فنون الشعر وأغراضه، والمتتبع لدقائقها.

ومن يقرأ قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذه في اللغز، يدرك تماما أنه لم يتكلف في صياغتها، بل تواردت أفكار اللغز في ذهنه بانسيابية سلسة، وجاءت القصيدة كتلة فنية رائعة الألفاظ والمعاني.

والقصيدة، كما أفهمها أنها ليست موجهة إلى شخص محدد، بل إلى كل من يجد في نفسه قدرة على فهم مثل هذا اللغز، بدليل أن سموه في نهاية القصيدة يقول:

هــــو لــغــز مــوضــح وخــفـي

حــاضـر غـائـب وفـيـه إرتـيـاب

هل عرفتم قصدي إذا خبروني

ومـــن الــلـب كــانـت الألــبـاب

وفي نهاية هذا التطواف حول حمى هذه الألغاز في هذه القصيدة، نخلص إلى أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حتى في كتابة الألغاز ينطلق من استراتيجية واضحة، ويضع أمامه رؤية ورسالة وهدفاً وغاية، فكأنه يبني مشروعاً من المشاريع التجارية التي يخطط لها بكل روية.

لذلك فإن لغزه الذي أخذ هذا الشكل الشمولي المترامي الأطراف، قد يعطي انطباعاً للقارئ أنه مشتت، إلا أنه في النهاية يراه مستجمعاً كل أخيلته ومعانيه في بيت جميل، فتلتقي نهايته ببدايته.

ولا يفوتني أيضاً أن أقول: إن القصيدة رغم أنها لغز، إلا أنها لا تقل عن أي قصيدة غزلية كتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ضمن قصائده التي طارت في آفاق الشعر والحكم والأمثال والسياسة والاقتصاد.

وفي الوقت نفسه ألاحظ قصيدته هذه مفعمة بكلمات تحمل فلسفة خاصة لسموه، وتنطلق عن حكم وتجارب، وهذا هو دأب سموه لكونه بيت الخبرة على كل المستويات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ورياضياً وفنياً وأدبياً، ومن الخليج إلى المحيط.

والخلاصة أن سموه موسوعي التفكير منذ ولادته، موسوعي الإبداع منذ تفتق ذهنه، فهو يقرأ ولا ينسى، ويجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويحبّ ولا يكره، ويسامح ولا ينتقم، ويبتكر ولا يقلّد، ويسبق ولا يواكب، ويُعجز ولا يَعجز.

وإنه يحب التورية كثيراً، والتورية أن تحتمل الكلمة معنى قريباً غير مقصود، ومعنى أو أكثر من معنى بعيد هو المقصود، لذا أقول بكل صراحة لكل شاعر وأديب: كل معنى خطر ببالك، فقصد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم غير ذلك.

 

Email