#حكايات_لكبار _المواطنين

«رسائل من الميناء».. فوقية حسن 65 سنة ــ ربة منزل

فوقية حسن السيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

«قالوا لي: يتوجب عليك أن تذهبي إلى الميناء. هناك بعض الأوراق يجب توقيعها. ترددت. كان قلبي يريد أن يذهب لعله يستعيد بعضاً من الذكريات التي تعينني على فقدانه. وكان عقلي يحاول أن يثني قلبي عن ذلك. وفي النهاية انتصر القلب ووجدت نفسي على رصيف الميناء، وسط هدير الذكريات ولم أمنع نفسي من البكاء، فذرفت دموعاً حارة متذكرةً زوجي.

أنا زوجة ذلك الرجل الصابر الطيب، الذي خدم عمله بتفانٍ وإخلاص، وكنت إلى جانبه، دوماً، على مقعد الصبر ذاته، في حافلة الأيام. كان محاسباً في ميناء راشد في السبعينيات، وكنت شابة صغيرة، وبيتنا أيضاً صغير في منطقة الشندغة، سقفه من عريش ومن ملح البحر، ومن أحلامنا ودعواتنا الراضية وأوقاتنا الهانئة. كانت الحياة صعبة، لكن لم يكن ينقصنا شيء ما دام العمل والستر موجودين. كنا نعيش تطوير الحياة ونختبرها لحظة بلحظة، وأعاننا ذلك على تربية زوجين من التوائم وأبناء آخرين.

أحببت زوجي وأخلصت له، وهو أيضاً. في ذلك الوقت، لم نكن نسمع كثيراً في حينا عن رجال تزوجوا مثنى وثلاث ورباع. كان حلالهم، لكن الشائع الاكتفاء بزوجة واحدة. اليوم، أسمع الكثير من بناتي عن قصص المزواجين. قربتنا العشرة والحنان، والتضامن من أجل المضي في رحلة الكفاح. كان معتاداً على الكفاح من صغره. ترك المدرسة من أجل أن يعمل ويصرف على أمه وإخوته بعد موت الأب. كنت في الصباح، أراه عائداً من العمل، وكأن مئات البواخر قد عبرت في نفسه وتركت أحمالها. كان عمله شاقاً لكنه لم يتذمر يوماً، وكنت أستمع إليه دوماً يردد: بلادنا بلاد خير وبسواعدنا سوف نصنع ازدهارها.

زوجي كان «سيداً» (مستقيماً في تصرفاته)، وكان، رغم تواضع إمكاناتنا وتعليمنا، لدينا ترتيب واضح لحياتنا خلقته الظروف نفسها. إذ إن زوجي دوام عمله ليلي. كنت أحضّر له العشاء، ثم يتناول طعامه ويودعني. وقبل أن أنام أحضّر له وجبة الفطور. وحين يعود في الصباح التالي، كنت والأولاد، أغادر إلى بيت عمتي القريب، لكي يأخذ راحته في النوم بهدوء، ولا نعود إلا حين «ينش» (يستيقظ). كنت أودعه بابتسامة وأستقبله بابتسامة حال استيقاظه. كان يحب ذلك، ويقول لي: أريد أن أصطحب ابتسامتك الحلوة يا فوقية إلى حلمي أيضاً.

تغيرت الحياة في فترة قصيرة. أشكر الله أنني عشت لكي أواكب ذلك. اليوم، حين نتذكر أنا وقريباتي وجاراتي، شكل الأيام الماضية منذ أقل من أربعين سنة، نظن أن ذلك كان حلماً وليس حقيقة. أشعر بامتنان كبير لكل الجهود التي يقوم بها قادة بلادنا من أجل ضمان شيخوخة كريمة وعزيزة لنا. علينا أن نرضى بقضاء الله. والموت هو قانون الحياة أيضاً. أتحسس قلبي اليوم فأشعر بدفء زوجي وأبتسم. أغمض عيني وأتخيل هواء الميناء الرطب تهب نسماته على وجهي وكأنها رسائل من الطيب الغائب.

 

علمتني الحياة

1 ــ الزوجة التي تخلص لا تقابل إلا بإخلاص

2 ــ تربية التوائم صعبة لكنها ممتعة

3 ــ الحياة مثل الميناء مليئة بالحكايات وليس كلها قيّم

4 ــ الصبر هو طريق الارتياح

5 ــ التأقلم ضرورة مع كل شيء وهو سمة الأذكياء

 

يأتي في حلمي

1 ــ باخرة قرب جليد وزوجي يلوح من بعيد

2 ــ ظلال كثيرة لكن العريش طاف على الماء

3 ــ وجه زوجي المتعب قادماً من الميناء

4 ــ عمتي تحتضن الأطفال وتقول لي ابتسمي لزوجك

5 ــ أركب طائرة صغيرة وأسافر لكن بشوق للشندغة

Email