محمد بن راشد في صـناعة الأمل عبــر دورات القمـة العالميـة للحكومات

نهج قيادي منفتح يقود الحوارات الكـونية ويعمــل لاســـتئناف الحضــارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عام توليه منصبه نائباً لرئيس الدولة، رئيساً لمجلس الوزراء، حاكماً لدبي، أصدر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «رعاه الله»، كتابه الشهير «رؤيتي»، الذي يعد لليوم مرجعاً مهماً لفهم نموذج دبي، وكذلك تجربة دولة الإمارات نفسها.

وهذا لأن الكتاب، «رؤيتي»، أعطى صورة متكاملة عن عقل قياديّ حيّ، يتفاعل مع الواقع، وكذلك مع الأفكار المعاصرة، والرائدة التي مرت في التاريخ، وينتج في التوّ حلوله الجديدة لدرجة أن لا أحد يمكنه ألا يلاحظها، والواثقة الهادئة لدرجة أنها تبعث على الطمأنينة، لا القلق الذي اعتدنا أن تثيره الأفكار الجديدة، التي توحي بالتغيير.

وكما استقطب هذا الكتاب الاهتمام لأنه أعطى ذات الصورة عن شخصية كاتبه، فيما أوضحت سطور «الرؤية» أن الكتاب لا يكشف فقط عن دور مؤثر أدّاه صاحبه بالإسهام في بناء نموذج الإمارة وتجربة الدولة فقط، بل يوضح كذلك شخصيته وتصوره الخاص عن الحكم والقيادة والإدارة، ما يجعل من سطوره مرشداً إلى نهج سموه المرتقب في قابل أيام حكمه.

ومنذ حينها، لم يتوقف الكتاب عن إثارة الاهتمام، كما لم يكف سموه عن إثارة موجات من الإعجاب، وقيادة الناس على اختلاف أصنافهم ومستوياتهم إلى محطات من الدهشة العميقة.

ومن هذه المحطات، محطة «القمة الحكومية»، التي جاءت في العام 2013. أي، بعد نحو سبع سنوات من تولي سموه الحكم، وكذا سنوات من صدور كتاب «رؤيتي»؛ فما الذي استشرفه سموه، لينطلق من «رؤيتي» إلى قمة للحكومات، أضحت منذ انطلاقتها، أكبر تجمع سنوي وأهم منصة حرة دولية، في العالم، لتطوير مستقبل الحكومات..؟

من «رؤيتي» إلى «القمة»

في الواقع، تستلزم الإجابة عن هذا السؤال قراءة رصينة لتجربة سموه، والإحاطة قدر الإمكان بفكره كما عبر عنه في أقواله وتصريحاته وكتاباته المختلفة، وكذلك مبادراته، ونمط الحكم الذي يؤمن به، وأسلوب القيادة الذي يتبناه، ونهج الإدارة الذي أرساه ويدعمه. كما تستلزم العودة إلى مستجدات الواقع منذ «رؤيتي» إلى إطلاق «القمة»، التي توصف بـ«قمة القمم»، في الإشارة إلى أهميتها وأثرها.

وهنا، فإن المتابع لـ«القمة العالمية للحكومات»، بوصفها مبادرة ملحة وضرورية، جاءت بهذه الرؤية والأهداف، وبهذا التوقيت تحديداً، لا يستطيع إلا أن يفكر بمستجدات الألفية الجديدة. وعلى وجه التحديد، بثلاثة كبرى منها:

هذا كله يذكرنا أولاً بـ:

** أن العالم العربي، بثقافته ودينه، كان قبل سنوات من تولي سموه منصبه، قد أصبح موضع اتهام يدلل عليه إرهاب أعمى اقترفته عناصر «عربية» جرح قوة سياسية وعسكرية عظمى، هي في نفس الوقت الدولة صاحبة الاقتصاد الأول في العالم. وهذه الدولة العظمى الجريحة، والعالم المتألم معها، كانوا يوجهون أصابع الاتهام إلى المنطقة بأنها جغرافيا إرهاب.

وكان من الضروري الإشارة، وتنبيه هذا العالم، بدوله وحكوماته وشعوبه، أن هناك الملايين الغالبة في منطقتنا العربية، كما في مناطقهم، يكدحون، كل في موقعهم، للإسهام في الحضارة الإنسانية، ويبغضون الإرهاب بصنوفه، ويكافحونه في بيوتهم ومؤسساتهم ومجتمعاتهم. ورغم أنه يدميهم قبل غيرهم، لا يدفعهم ذلك للنكوص على أعقابهم، أو التخلي عن هويتهم الإنسانية، وعضويتهم في الأسرة البشرية.

وهذا كله يذكرنا بـ:

* أن كثيراً من دول العالم الأول، ولأسباب يطول شرحها، وقعت في أزمة اقتصادية أخذت منحنى عالمي الطابع، وذلك بعد ما يقرب من سنتين على صدور «رؤيتي» وتولي سموه منصبه. تأثرت به شعوب دول عاملة ونشطة، أكثر من دول فاشلة. والأكثر لفتاً للانتباه أن الدول المصدرة للأزمة.

وهي دول من الصف الأول من «العالم المتقدم»، المسلح بالتكنولوجيا، وأساليب الإدارة الحديثة في مجالات الحياة، وقطاعات الاقتصاد، وقفت عاجزة إزاء الأزمة، تجرب مختلف الأساليب القديمة لمعالجة الأزمة الحديثة. ولا تتمالك أمرها من الأزمة، فما البال من أمر غيرها من الدول التي تأثرت بسببها.

وكان متوقعاً من صاحب همة كبيرة، وتجربة يومية ممتدة على سنين طوال في تحويل التحديات إلى فرص، أن يبرز من بين الصفوف لينبه إلى أن الحلول القديمة لا تنفع مع الأزمات الجديدة.

ويشخص الواقع، فيعلن أن هناك مشكلة في أداء الحكومات على مستوى العالم، دون فرق بين عالم متقدم ومتأخر، وأن الجميع معني بحل هذه المشكلة بـ«التفكير المشترك» لـ«فهم الحاضر» و«الابتكار» و«استشراف المستقبل».

وهذا كله يذكرنا بـ:

** أن كثيراً من دول العالم العربي، وقت إطلاق هذه القمة العالمية للحكومات، الباعثة على الأمل، كانت قد غرقت فعلياً في دوامة العنف والإرهاب العدميين، واستبيحت أراضيها ومواطنوها، في حياتهم، وفي وعيهم الذي دهمته الأحداث الدموية القاسية، فاعتقدوا أنها النهاية، واستسلموا لليأس.

وكان من الطبيعي أن يبادر مطلق مبادرة «صناع الأمل»، الذي اختار لـ«المسبار الذي تطلقه الإمارات إلى المريخ» هذا الاسم أيضاً، إلى التحرك، فيحرك ماكينة الابتكار الإماراتية باتجاه «الأمل»..

• الأمل للشعوب التي دهمتها الأحداث الكارثية في بلدانها، والدماء التي تراق مجاناً، وعشوائياً.

• الدروس للحكومات بأن الحل ليس في قمع التذمر، ولكن في صنع الأمل وإحياء الإيجابية.

«السياسة» أم السياسة؟

اعتادت الحكومات العربية أن تعطل مجالات الحياة كافة بدعوى الاهتمام بـ«السياسة»، التي يفترض أنها مهمة على نحو استثنائي. وفي خلال هذا الزعم لا تترك الحكومات العربية المتعاقبة فرصة للتساؤل إن كان مفهومها لـ«السياسة»، الذي يعطل عملية التنمية والتطور الاجتماعي ومواكبة العصر، صحيح أم لا. وهذه الحكومات بذلك تقنعنا أن «السياسة» هي فقط ما يقع في نطاق التعامل مع النزاعات الخارجية والعلاقات الدولية.

وهذا غير صحيح. وهذا فهم مجتزأ، ومخادع..

السياسة، أولاً، هي نوع من الإدارة، سيادي الطابع، ولكنه خاضع للنقاش الوطني العام وحرية الرأي.

ولكن، بالمقابل، أحياناً تصبح «لقمة الخبز» و«حبة القمح» قضية أمن قومي. أي، مسألةً سيادية، محمية بقوة دستورية من الخضوع للنقاش العام أو لحرية الرأي. أي، هي بذلك أكثر سياسة من «السياسة»، فهذه الأخيرة خاضعة للنقاش العام وحرية الرأي؛ فإذا كان الغذاء، أي إطعام الأفواه هو قضية أمن قومي ومسألة سيادية أهم من «السياسة»، فإن قضية التنمية هي، بالضرورة، كذلك.

لذا، ليس من الغريب:

* أن سموه يروي في كتابه «قصتي» تفاصيل من لحظات مفعمة عاشها مع والده المغفور له راشد بن سعيد آل مكتوم، فيقول إن المغفور له «كان يفضل دائماً الابتعاد عن ضوضاء «السياسة» وتشابكاتها ومعاركها الصفرية». وإن سموه في «مبادئ دبي الثمانية»، يقول في «المبدأ الثالث: نحن عاصمة الاقتصاد»: «دبي لا تدخل في «السياسة»، ولا تستثمر فيها، ولا تعوِّل عليها لضمان تفوقها».

ولذا، أيضاً، ليس من الغريب:

* أن الشعوب العربية ومفكريها وأحرارها يرفضون، كذلك، هذه «السياسة»، بهذا المفهوم غير الصحيح، المجتزأ والمخادع، الذي يعطل ماكينة العمل في الدول..

ولهذا، أيضاً، فإن:

* «القمة العالمية للحكومات» ليست تجمعاً رسمياً، يضم أصحاب مناصب حكومية بصفاتهم الرسمية؛ ولكنها منصة تستقبل صنّاع قرار ومحللين وخبراء وقادة فكر وراسمي سياسات ومسؤولين من شتى دول العالم، ليس بمناصبهم وسلطتهم أو بقوة تمثيلهم لما يمثلونه. ولكن بفكرهم، وخبرتهم، وتجربتهم، ومبادراتهم، وإسهاماتهم، وإخلاصهم لقضية تطوير الوعي والأداء الحكوميين.

ولهذا، كذلك:

* حققت «القمة العالمية للحكومات» في ست دورات ماضية، فعلياً، ما لم تحققه القمم العربية السياسية الكثيرة، التي زاد بعض أنواعها عن سبعين دورة.

هنا، ثلاثة أطراف يثبتون أن فهمهم للسياسة أجدر للثقة. ويتمثل هؤلاء بالشعوب في انتقاداتها للحكومات العربية المتعاقبة بخصوص فهمها المجزوء للسياسة، والمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حينما توجس من الضوضاء التي تسبق الشيء الذي يفترض الناس أنه سياسة.

ولا يؤدي إلا إلى معادلات صفرية، في حين أن تعريف السياسة هي فن الممكن؛ وسموه الذي يقول مؤكداً: في «المبادئ الثمانية»: «دبي لا تدخل في السياسة، ولا تستثمر فيها، ولا تعوِّل عليها لضمان تفوقها».

لذا، في خلاصة أولى يمكن القول: رحلة سموه لم تبدأ بـ«رؤيتي»، ولا تتوقف عند «القمة العالمية للحكومات»!

رحلة استعادية

إن رحلة سموه، هي بالذات، رحلة تنشد غاياتها. وغاياتها تقع في المنطقة التي يتم فيها إعادة تعريف الأشياء والمفاهيم، والتفكير بها مجدداً، بحيث لا تغدو «السياسة» هي كل السياسة. وتصبح كلتاهما واحداً متكاملاً، شاملاً، دون انتقاص من معنى واحدة منهما على حساب معاني الأخرى، أو العكس!

وإنها، بالذات، رحلة تنشد غاياتها. وغاياتها تقع في المنطقة التي تقود العالم إلى التفكير بكل ما يستطيع ويملك من قدرة، وبمعونة أفضل العقول لديه، لإيجاد حلول لمشاكل الواقع الحديث المعاصر بتفكير ابتكاري، وأدوات جديدة!

وإنها، بالذات، رحلة تنشد غاياتها. وغاياتها تقع في المنطقة التي تصحح وجهة نظر مختلف مكونات العالم عن بعضهم بعضاً، وتقودهم إلى أن يدركوا أنهم شركاء في الحضارة والإنسانية، يعملون معاً، ويواجهون التحديات معاً، وسوياً يصنعون الفرص. وأنهم ليسوا جنوداً في جيوش متحاربة، ولكن أعضاء في فريق عمل واحد يبنون مجد الإنسانية، والخير لأبنائها!

استئناف الحضارة

وبهذا، فإن رحلة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عبر دورات القمة العالمية للحكومات، هي رحلة لصنع منبر مبتكر لمخاطبة البشرية، وفتح حوارات كونية تؤكد أن العالم، الذي بات قرية صغيرة يتأثر بعضه ببعض، يمكنه أن يتعاضد ويتوافق، على الأقل أمام الأخطار والأزمات، التي باتت تنتقل حتى عبر «كيبلات وبروتوكولات الإنترنت»؛ فكانت بذلك تجربة بناء نهج جديد في القيادة، وإعادة فهم التنمية، وتعريف السياسة!

وهي، كذلك، رحلة «رؤية»، استدعتها كبوة العالم الأول المتقدم، الذي يقود العالم بقوة علومه واقتصاده ودوله، ولكنه لم يستطع حماية نفسه من الوقوع بأخطاء مهلكة، ولم تتوافر لديه لحظتها إرادة الوعي الكافية لتدارك تلك الأخطاء، ولا حماية الآخرين من تبعاتها.

فكانت هذه «الرحلة»، بذلك، دعوة لاستشراف المستقبل، والتشارك بالتفكير، طالما أن القرارات في قارة ما، تؤثر على الخيارات في بقية القارات!

وهي، في الآن نفسه، رحلة «رؤية»، اقتضتها التحديات التي واجهت العالم العربي مرتين: الأولى، مع التهمة بالإرهاب بعد «غزوة» الخارجين على العصر والانتماء العربي. ثم الكارثة الدموية الكبرى، التي تضافرت بعناصر من الفشل والفوضى والخراب والإرهاب؛

فكانت «الرحلة» دعوة لـ«استئناف الحضارة العربية».

من «قصتي»

يوضح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في كتابه «قصتي» طبيعة الخلل في الفهم العربي للسياسة، فيقول:

«أفكر أحياناً، لعلّ منظوماتنا التعاونية، سواء الخليجية عبر مجلس التعاون أو العربية عبر الجامعة العربية بحاجة لإعادة نظر في هيكلتها وطريقة عملها. هذه المنظومات يديرها رجال سياسة، وزراء الخارجية بالدرجة الأولى، الوزراء المعنيون بالأزمات السياسية، وبالتالي ستظل تدور في نطاق السياسة على ما فيها من خلافات واختلافات.

دائماً كنت أتساءل: ماذا سيكون الحال لو أدار هذه المنظومات رجال التنمية؟ ماذا لو أدارها رجال الإدارة والقيادة؟ ماذا لو أدارها المسؤولون عن الخدمات التي تقدم للشعوب، بحيث كان محور عملها هو تطوير هذه الخدمات، وتطوير بنية تحتية جديدة لشعوبنا العربية؟ ماذا لو كانت أولوياتها الاستثمار في تحديث أسلوب الحياة للمواطنين في وطننا العربي، وتطوير قنوات الاستثمار.

وبناء الشركات والشراكات الاقتصادية، والاستثمار في العلوم والأبحاث والتطوير والصناعات؟ كيف سيكون حالنا اليوم؟ عُمر الجامعة العربية اليوم مثلاً أكثر من سبعين عاماً، ماذا لو كنا بدأنا كل ذلك قبل سبعين عاماً؟ كيف سيكون الحال؟

ربما حان الوقت ليتولى رجال الإدارة والقيادة ورجال الأعمال والمال والصناعة قيادة هذه المنظمات بدلاً من وزراء الخارجية. ربما! لماذا لا نجرب؟».

 

Email