#حكايات_لكبار _المواطنين

مروحة الحياة.. سيد الهاشمي 81 سنة موظف مطار

ت + ت - الحجم الطبيعي

«كانت فرحتان: إعلان الاتحاد وولادة ابني في السنة ذاتها. في ديسمبر. كان مرهفاً ومحباً للحياة والناس ويغضب قليلاً لكنه إن فعل لم ينفجر، بل كان عذباً، حتى إن القلب ينشطر لرؤية طاقة الحياة التي فيه ذابلة. درس هندسة الكمبيوتر وبرع، وذات يوم قال لي: أبي، أظنك لا تعرف كيف تطير الطائرات، سأشرح لك كل شيء عنها حين أصبح متمكناً أكثر من علم الكمبيوتر. أنجب ولداً وبنتاً، ثم مات، ابني، حبيبي، قتله المرض الخبيث، فأخذ جزءاً من روحي معه إلى الأبد».

كنت موظفاً في الدفاع المدني في مطار دبي أواخر الستينيات. كنا نعيّن الزمن بورود طرازات جديدة من الطائرات. فنقول هذه سنوات الـ«دي سي تري»(طائرات مروحية صغيرة)، وتلك سنة «البوينغ 707»، وتلك سنة «البوينغ 747»، وهكذا.. كانت كل الأشياء صغيرة: المطار، الطائرات، مقاعد الركاب، الوجبات على الطائرة وحتى أحلام الناس. صغيرة. متواضعة. لكن حلمي كان كبيراً. في كل صباح تلمع زوجتي الشرائط الحديدية «الرتبة الإنجليزي» على بزتي، ويلعب عارف بين رجلي، ويرفع كفه إلى أذنه كأنه يؤدي التحية ويقول بلعثمة: «صباح الخير أيها الملازم». كنت أحمله وأدور وتدور معي الدنيا، غداً يكبر ويصبح كما يريد ونسافر معاً إلى كل الدنيا. لكننا سافرنا مرة واحدة حين أصبح شاباً: إلى الحج. كان خائفاً علي كثيراً لأنني ذهبت إلى بيت الله بعد عملية قلب مفتوح. بعدها بفترة ابتسم لآخر مرة في وجهي. لم يكن قد مضى أكثر من شهرين على عودته من رحلة العلاج قبل أن يفارق النفس. أذكر شعوري في تلك اللحظة كثيراً؛ زاغت عيناي. دارت الصور رأساً على عقب في مرمى بصري. وسمعت هديراً قوياً في دماغي. أقوى من مروحية «الدي سي تري» وتحليق «البوينغ». إنه ذلك الهدير الذي لا يختبره إلا من.. انشطر قلبه نصفين!

أذكره صغيراً جاء معي إلى المطار. أراد أن يرى سيارة الدفاع المدني التي ترش المياه. قابله رئيسي في العمل «المستر جون» الإنجليزي وضحك له. لعب معه كل زملائي: أحمد وعلي وأبو بكر. شرحوا له عن الطائرات وضحك كثيراً حين شاهدني منضبطاً في طابور الصباح أؤدي حركات استعراضية. ثم عاد إلى البيت وأخبر أمه عن كل ما رآه. وقال: أريد أن أعمل في المطار حين أكبر. لكنني لم أكن متحمساً، خفت عليه من التعب، ولم يكن حال المطار كما هو اليوم. من كان يدري أن مطار دبي سيكون الأول عالمياً، وأن هدير الطائرات في فضائه لن ينقطع ليل نهار.

كل شيء بيد الله. الأعمار. الأسفار. السماء. الأرض. لقد ترك لي تامر ابناً وبنتاً. الابن تخرج في الجامعة. البنت في بداية المرحلة الثانوية. هذا يعزيني. أحفادي. الآن حين يسافرون، ويمرون من المطار، أتخيل أنني أسمع ضحكته، صغيراً يركض قرب المركز خوفاً من رشاشات الماء، بينما المستر جون يضحك.. كثيراً!

 

علمتني الحياة

مشيئة الله فوق كل شيء

الصبر هو الذي يجعلنا أقوياء لا التذمر

الحفيد معزّته بمعزة الابن

لا شيء يبقى على حاله

العزيمة تصنع المعجزات

يأتي في حلمي

أنا أعلّم ابني على طلاء طائرة

الكثير من الماء ومستر جون يبحث عني

أدور حول الكعبة وأرفع رأسي لألمح طيراً

نهر يشق حديقة خضراء حيث تتوقف طائرة

هدير لا يتوقف في رأسي

 

 

Email