حفاوة القلوب الكبيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بحفاوة القلب للقلب، وصفاء الروح للروح، كتب صاحبُ السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلّحة، كلمة جليلة القدر عميقة التأثير في حق أخيه وحامل المسؤوليات معه في هذا الوطن الجميل، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، بمناسبة العام الخمسين لتولي سموه أولى مسؤولياته قائداً لشرطة دبيّ، وصولاً إلى هذه الذروة العالية من عطائه المبارك الميمون، وهي كلمةٌ دالّة على عُمق الإخاء الذي يربط بين هذين البدرَيْن الطالعَيْن في سماء الوطن، وصفاء المحبة بين هذين النسرين الشامخين شموخ الزمن، وكيف لا يكون عقد الإخاء هو الرابط بينهما وهما اللذان قد جلسا طويلاً بين يدي حكيم العرب وشيخ الجزيرة وفارس الإمارات الجليل، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيب الله ثراه، ذلكم المعلم الذي لا تُعفّي على آثاره السنون والأعوام، فقد كان بحر عطاء ونبع إلهام، ومدرسة خيرٍ ومشعل إنجاز، وسيفاً ماضياً وكفّاً مبسوطةً بالخيرات، وقلباً عطوفاً على الضعفاء والمحتاجين، فكان هذان الفارسان هما الثمرة الميمونة لهذا الغرس المبارك، والشجرة المعطاءة في ربوع الوطن الحبيب.


ووفاءً لزايد معلم الرجال الصبور، ينطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد من «عام زايد»، للتعبير عن محبته لأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، فيكتب قائلاً: «يُكمل أخي محمد بن راشد مع عام زايد خمسين عاماً في خدمة الوطن منذ تولّيه أول مسؤولية قائداً لشرطة دبي، مسيرة حافلة بالعطاء، رافق خلالها زايد وراشد، رحمهما الله، في مدرسة الحياة، حتى أصبح مدرسةً في القيادة والإدارة وصناعة الحياة»، ولا يكتفي بهذه الحروف الرسمية، بل يستخرج من أعمق نقطة في قلبه حروف المحبة الصافية، فيقول: «خمسون عاماً يا بو راشد تغيّر فيها الكثير حولك، ولم يتغيّر فيها إخلاصك وحرصك وحبك لوطنك.. أهنّئ الأجيال التي تعلّمتْ منك، وأهنّئ نفسي لأني وجدتُ فيك الصديق الناصح والعضيد الصادق والسند المخلص»، ثم يختم هذا الدفء النبيل بحروف في قمة التواضع والإنسانية والمحبة الصادقة، حين يتوجه إلى صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، قائلاً: «شكراً (يا بوراشد)... شكراً على خمسين عاماً للوطن».


ويصل فيضُ القلب والمحبة إلى قلب «بو راشد»، فلم يجد ردّاً أكرمَ ولا جواباً أحلى ولا نغمةً أصدق من قصيدة كاملة باهرة التركيب، شكلاً ومضموناً، قدّمها لمقام أخيه «بو خالد»، عنوانها «خمسين عام»، افتتحها بقوله:
مــشـكـورْ بــوخـالـدْ يــازاكـي الـفـعـايلْ
                     وأهــدي لـكـمْ مـنِّـي قـصـيدِ وتـلاحـينْ
تــطـربْ لــهـا لـــي نــاشـلاتْ الـيـدايـلْ
                     وتــرقــصْ عـلـيـها الـفـاتـناتْ الـمـزايـينْ


فتقديراً لتلك الكلمة البديعة التي كتبها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد، جاء هذا الرد الرائع الذي يسحر الألباب بعذوبة موسيقاه وجمال كلماته وعطر محتواه، فكما كانت كلمات صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد نابعة من أعماق القلب، جاءت هذه القصيدة تحمل وشم المحبة الخالصة والعاطفة المشرقة، فكلا الرجلين لا يحمل لأخيه إلا أنبل العواطف وأبهى المشاعر، لذلك يأتي الكلام عفوياً صادقاً دالاً على رسوخ المحبة في الجوانح، فجاء الشكر الجليل على شكل هذه القصيدة التي تتراقص ألحانها مثل جرة الربابة بين يدي عازف ماهر، فتطرب لها أسماع الغيد الحِسان ممّن تتراقص جدائلهن السود، وترقص على إيقاعها النساء الفاتنات اللواتي أخذن من الزينة بأوفر الحظوظ، فالمزايين جمع مزيونة، وهي التي تبهر العين بملاحتها ودلالها.


خــمـسـيـنْ عــــامٍ يــازعـيـمْ الــمـرايـلْ
                        والـعامْ مِـنْ جهدكْ مِساوي لخمسينْ
مـــنِّــكْ تـعـلـمـنـا مــتــى نــــردْ عــايــلْ
                        ومــنــكْ تـعـلـمـنا نــحــبْ الـمـسـاكـينْ


وكما كان بو راشد سنداً للوطن في هذه الخمسين عاماً، كذلك كان بوخالد سيداً للرجال وزعيماً للفرسان، تتعلم منه الأجيال مكارم الأخلاق، وتصدر عن رأيه الثاقب في مواجهة الخطوب والمُلمّات، فكانت السنة من عمره مثل عشر سنوات من عمر غيره، فهو الخبير بإدارة الحياة وضبط إيقاع التقدم ضمن معادلة حاسمة تقوم على حماية الوطن أولاً وصيانة مقدراته والارتقاء بإنسانه الطيب المعطاء ثانياً، فهو الأستاذ الذي تعلمت منه الأجيال متى وكيف يكون الرد على التحديات، ومن قلبه الطيب العطوف المعطاء الذي ورثه عن أبيه الشيخ زايد، طيب الله ثراه، تعلّمت الأجيال كيف تحب المساكين، وكيف تعطف على الفقراء، وكيف تسند الأرواح المتعبة، وتبذر الخير في تربة المحبة والتسامح والتفاني في خدمة الوطن.


وإنـــتــهْ وسـيـلـتـنـا لـــكــلْ الــوســايـلْ
                      وإســمـكْ غـــدا عـنـوانْ كــل الـعـناوينْ
لـــكْ فــضـلْ مـــا نـنـساهْ خـيـرْالفضايلْ
                      ولـكْ جـودْ تـشهدْ بـهْ البشَرْ بالملايينْ


ولأنّ «بو خالد» هو القائد المقدام، فقد سارت الجموع خلفه تعبيراً عن الثقة بقيادته وشجاعته وحنكته في القيادة والزعامة، فهو وسيلة الوطن والإنسان لبلوغ جميع الأهداف التي تقتضيها المصلحة، وتعبير عن التلاحم بين القيادة والشعب، فالشيخ محمد بن زايد في عين الشيخ محمد بن راشد عَلَمُ الوطن المرفوع ولواؤه العالي الذي غدا عنواناً للإنجاز والشجاعة والسماحة وحسن الخلق في التعامل مع المواطنين.


عـــلـــيــكْ راهــــنَّـــا وفــــزنـــا بـــنــايــلْ
                  ومــنْ فـيـضْ جـودكـلْ شـعبكْ مـريفينْ
سـاسْ الـكرمْ سـاسكْ بـفعلْ الـيمايلْ
                  مــيــراثْ زايــــدْ تــبـذلْ الــبَـذلْ وتـعـيـنْ


لقد كان الشيخ محمد بن زايد هو فارس الوطن الجامح الذي انعقد الرهان على شجاعته وجرأته وبسالته في المُضيّ بالدولة نحو أفقٍ جديد من التقدم والاعتزاز بالهوية الوطنية، وإكمال المسيرة المظفرة التي بدأها والده المغفور له الشيخ زايد تنميةً للبلاد وحفاظاً على مقدرات الوطن، وترسيخاً للولاء والانتماء، فغدت الإمارات بفعل جهوده الكبيرة واحة أمن وسلام وعطاء وإبداع.


تـحـمي حـمـىَ الـدولـهْ بـجندْ وأصـايلْ
                               فـرسانها الـفرسانْ وقـتْ الـلقا إيـحينْ
وصــلــتـنـا الأفـــــلاكْ لــلـنـجـمْ طـــايــلْ
                               مــقــامْ عـــزٍّ مـايـقَـسَّمّ عــلـىَ إثـنـيـن


وفي هذا المقطع إشارة جازمة إلى المسؤوليات العسكرية التي ينهض بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث يصل الليل بالنهار في سبيل أن يظل جيش الإمارات في طليعة الجيوش القوية المدربة المستعدة لخوض المعارك دفاعاً عن كرامة الوطن ومساندة الأشقاء إذا نادى منادي الإخاء، فالإمارات ليست معزولة عن أشقائها، بل هي في طليعة الدول المستعدة لبذل كل جهد في سبيل حرية العرب وصون كرامتهم.


نــــــدراكْ راسٍ مــايــعَــرف الــفـشـايـلْ
                           ونـنـخـاكْ بـــاسٍ يَـهْـزمْ الـلِّـي مـريـبينْ
لـــــكْ الــمــوَدِّهْ مِــــنْ بــيــوتْ وقــبـايـلْ
                           والــطــاعَـهْ الـعـمـيـا ولأمــــركْ مـلَـبِّـيـنْ


وهذا هو الحب الكبير يفيض به قلب الفارس الكبير تجاه أخيه وعضيده «بو خالد» الذي يصفه بأنه رأس من رؤوس الرجال الكبار، لا يعرف الفشل، ولا تعرف الهزيمة ولا التردد إلى قلبه سبيلاً، بل هو سيف ماضٍ يهتزّ لصوت النخوة حين ينتخيه الوطن، فيهزم كل الجموع المتربصة بالوطن الدوائر، فاجتمعت القلوب على محبته وطاعته من شتى البيوت والقبائل، وقدمت له فروض الطاعة لثقتها الكبيرة بشجاعته وبسالته وإخلاصه لوطنه، وكانت دوماً جاهزة لتلبية نداء سموه إذا انتخاها وأمرها بما فيه مصلحة الوطن والدفاع عن كرامته وشرفه.


وكـــــلْ مِـــــنْ عـــــاداكْ رايــــحْ وزايــــلْ
                             وكــــلْ مِــــنْ نـــاداكْ يَـبـشِـرْ بـتَـمـكينْ
إنـتـهْ عـسَـلْ لأهـلـكْ يـازاكي الـفعايلْ
                             ولــلــعـدو عــلــقَـمْ بــعـدوانـهْ إيــشـيـنْ


وبعين الشاعر وببصيرة قلبه التي لا تُخطئ، يؤكد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد أنّ كل من عادى هذا الفارس المقدام مصيره إلى الزوال.
وفي هذا الموطن تصل الرقة الشعرية إلى أبهى تجلياتها، حين يشبه «بو راشد» شقيقه وعضيده «بو خالد» بالعسل المصفى كنايةً عن حسن أخلاقه مع أهله ومواطنيه، فهو رحمةٌ وسلام لهم، وسَندٌ وعضدٌ لفقرائهم، ولكنه السم الناقع والعلقم المُرّ على أعداء الوطن الذين لا يعرفون معنى الحب وقيمة الصفاء، فهم أهل الشّيْن في مقابلة أهل الزَّين! وشتان شتان بين الشَّين والزين.


خـمـسـيـنْ عــــامٍ لــلـوطـنْ بــالـدلايـلْ
                           هي لي شرَفْ واجبْ وربيِّ لي إيعينْ
وتــقــديــرْ بــوخــالــدْ كـــرامــهْ ونـــايــلْ
                         وفَـضلكْ يـابوخالدْ عـلىَ الـــرَّاس والـعينْ


وبهذه الخاتمة البديعة النابعة من أصفى ينابيع القلب، يختتم صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذا التكريم الرائع للإمارات كلها، مجسّداً في شخص صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد الذي احتفى هو من أعماق قلبه بإنجازات أخيه صاحب السموّ نائب رئيس الدولة، ليكون الجواب هو هذه القصيدة العصماء التي تشهد بكرم أخلاق أهل هذه الديار الذين ترسخت علاقتهم على المحبة والصفاء، فكانت هذه الخاتمة الهادئة التي لا تخلو من رَنّة الامتنان لصاحب الفضل، فبو راشد، الفارس المنذور للوطن لا يرى في كل هذه الإنجازات إلا واجباً تشرّف سموه بتقديمه للوطن عن محبة وانتماء صادق، فدولة الإمارات تجري منه مجرى الدم.

Email