#حكايات_لكبار _المواطنين

بطل التلفزيون.. شعبان البلوشي 70 عاماً بائع أجهزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

«كل شيء بدا كالمعتاد. إنه يوم آخر من بداية عقد الستينيات. خور دبي كما هو في كل يوم: صاخباً. سفن ومراكب. نداءات تجار. أكيال قمح وأكياس بهارات. قماش ملون ورائحة توابل تفوح في الأجواء. أحياناً يعطس بعض المارة، ويظن البعض الآخر أن الصوت الصادر عن النوارس التي تزعق، ما هو إلا عطس أيضاً بسبب عطر البهارات. كل شيء بدا كالمعتاد، لكنه لم يكن كذلك في واقع الأمر، على الأقل بالنسبة إلى بائع شاب في محل إلكترونيات في السوق القديم والوحيد.

كان هذا الشاب، هو أنا، وكان اليوم غير عادي، لأنه يوم وصول جهاز غريب، كنا سمعنا عنه وشاهدنا صوراً له في صفحات المجلات الأجنبية التي نصادفها في الأفران أو محال البقالة، تستخدم للف الحاجيات. جهاز كنت أنا شخصياً متشوقاً لاكتشاف سره: كيف تجد فيه راديو، وأيضاً سينما في الوقت ذاته. كان ذلك اليوم.. يوم وصول التلفزيون.

أتذكر جيداً: تجمهر المارة. مدوا رؤوسهم. تحلقوا حول وكيل الشركة العالمية التي تزودنا بالأجهزة. تكاثروا. حتى ضاق نفس الوكيل، محاولاً مراراً أن ينفك من تلك الحلقة، لكنه لم يتمكن من فعل ذلك بسهولة. "هواء.. هواء.. يا شباب قطعتم الهواء"، صرخ بصوته، فابتعد قليل منهم، لكن آخرين كانوا يتوافدون من كل مكان، من القوارب، وساحة البلدية، والضفة الثانية. لقد سمعوا جميعاً أن المحل الذي أعمل فيه، جلب أول تلفزيون، وأرادوا التعرف إلى هذا الجهاز المذهل.

قرر "راعي المحل" أن يأخذ التلفزيون إلى البيت، لكي يجربه. ومكث هناك أكثر من شهر. أجزم أنه استمتع مع عائلته بالمشاهدة، ونسي التجارة. كان الزبائن يأتون ويسألون: أين التلفزيون؟، زبائننا من كل مكان: دبي والكويت والبحرين. في نهاية المطاف، رضخ صاحب المحل للطلبات، وبعنا أول جهاز. رغم ذلك، لم يكن الإقبال كبيراً في البداية، إذ إن ثمنه كان يعتبر غالياً، ليس بمقدور عامة الناس أن يقتنوه. كان أغلى بكثير من جهاز الراديو، الذي يتراوح سعره بين 100 و300 روبية. كان راتبي كموظف في محل أعمل سبعة أيام في الأسبوع، لا يتجاوز 40 روبية.

هذا يعني أن جهاز الراديو الواحد، كان سعره في أقل تقدير، يساوي 5 شهور من راتبي. لقد عرفت كل شيء، وكنت شاهداً على زمن كانت الأشياء فيه عصية على تخيلها اليوم. هل تعرفون أن أجهزة الراديو في البداية، كانت تشحن من بطارية السيارة؟ ثم بعد ذلك تطورت، وكانت بطاريتها ضخمة. ثم صغرت. وظهر الراديو ترانزستر. كان الناس يحبون الراديو، ولكن لم يكن "الجاباني" (الياباني) مرغوباً. كان يعتقد الناس أن المنتج الياباني "كشرة" (غير جيد التصنيع)، بعكس ما هو اليوم.

ربيت عائلة من خمس بنات وولد واحد من عملي في هذا المحل. أبنائي حين كبروا، لم يمنعوني من التردد عليه. لكنني حين تعبت، وأضجرني كم أن "معلمي" كان بخيلاً، انتقلت للعمل كحارس في إحدى المدارس.

أبنائي لم يمانعوا أيضاً، لكنهم لم يحبوا يوماً اسمي "شعبان"، وكانوا يجدونه قديماً، وربما مثيراً للسخرية. حتى إن بعضهم طلب مني تغييره. لكنني كنت أضحك دوماً وأرفض. كان الناس في زمن مضى، قبل اختراع التلفزيون، يحبون اسم "شعبان".. لم يعودوا كذلك، ربما. لكنني لا آبه لذلك. فالحياة صور متحركة، وأسماء، وكلها.. زائلة.

 

علمتني الحياة

1 ــ كل شيء زائل. الصور، الأصوات، الأسماء. لا يبقى إلا وجه الله

2 ــ عليك ألا تستسلم للاعتياد، وتخسر فرصاً وإلا ندمت

3 ــ الفضول ضروري إذا أردت أن تنمي معرفتك

4 ــ بعض الأشغال ليس شاقاً، لكنه مرهق ذهنياً

5 ــ علم أبناءك أن يفخروا بإنجازك، وبك قبل كل شيء

 

يأتي في حلمي

1 ــ واجهة محلنا مليئة بأكياس التوابل

2 ــ التلفزيون يبث صوراً بالأبيض والأسود، ثم تأتي صورتي ملونة

3 ــ أستمع إلى أغانٍ هندية من الراديو أرددها مثل «بلبل»

4 ــ «راعي المحل» يمنحني مكافأة سخية

5 ــ ابني يحفر اسمي «شعبان» على حائط في السوق

Email