حيرةٌ وسؤال ينتهيان بالإيمان والتسليم

ت + ت - الحجم الطبيعي

مثل السيل المتحدّر من الأعالي الشامخة، تتحدر هذه القصيدة الجليلة من جبال القصيد، تعلوها نبرة ثقة باهرة، ويتدفق في حروفها إيقاع هو أشبه شيءٍ بحركة الفرسان في ميدان السباق، كتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، من حُرّ قلبه وعميق خبرته، وبديع حروفه التي تشهد له بفروسية السيف والفكر، لتكون سِمطاً باهراً من قلائد الشعر وفرائده الغاليات..

ثقة

إسـجـعي يــا الـقـصايدْ بـالجديدْ الـغريبْ

                      مــنْ شـريـفْ الـمـعاني واصـلـهْ لـلكمالْ

مــنْ عـجـيبٍ مـصفَّىَ مـا لـمثلهْ ضـريبْ

                      فــوقْ حــدِّ الـظـنونْ وفــوقْ حَـدْ الـخيالْ

بهذه النبرة الواثقة الجليلة، يفتتح محمد بن راشد هذه القصيدة رفيعة المقام في سياق تجربته الشعرية، حيث تتأسس على روح التحدي والبحث عن النادر الغريب على المعهود من منهج سموه الذي لا يعرف المألوف، ولا يرضى إلا بالصعب العسير الذي لا ينهض به إلا أشجع القادة وسادة الفرسان، فهو يخاطب القصائد بأن ترفع صوتها بالمعاني الشعرية المبتكرة التي لا يهتدي إليها إلا الشاعر المبدع الذي يقتنص المعاني الفريدة مثل اقتناص الفارس الشجاع لأثمن الظباء وأجمل الغزلان. ويزداد الإحساس بالثقة بالنفس حين يتم وصف هذه المعاني بأنها مثل الذهب المصفّى والماء العذب الزلال، ما يفوق توقعات الظن وآفاق الخيال.

لؤلؤ

لــولـوٍ فـــي مـغـاصَهْ مـظـلماتْ الـغـبيبْ

                        جــوهَــرَهْ مـا يـثـمَّـنْ بــالــوزونْ الــثِّـقـالْ

وإكـتـبي مــنْ حــروفٍ مـا وعـاها خـطيبْ

                        لـوْ (لِ قِـسْ الإيادي) لي بهْ ضَرْبْ المثالْ

ومثل اللؤلؤ الثمين الذي لا يصل إليه السابح الماهر إلا إذا غاص في أعمق نقطة من البحر، جاءت هذه المعاني الشعرية الحكيمة اللامعة، فهي من طرازٍ فريد لا عهد للشعراء به، وهي أثمن من اللآلئ المكنونة في قاع البحار التي لا تستطيع الموازين الثقيلة أن تعرف قدرها وفخامة شأنها، فهذه الحروف النادرة هي من نمط لا تعرفه الشعراء ولا الخطباء حتى لو كانوا من طبقة خطيب العرب الأشهر قُسّ بن ساعدة الإيادي الذي كان يمثل النموذج الأعلى في الخطابة الأدبية في تاريخ العرب القديم، وكان حين يخطب في فصحاء العرب يصبحون كلهم آذاناً مصغية بسبب فصاحته التي لا نظير لها، فجاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى هذه القمة العالية في تاريخ أدبنا العربي المجيد وجعلها أفقاً عالياً لطموحه الذي لا يعرف الحدود ولا يتقيد بالقيود.

إحساس

نَـبـضْ يَـسـري بـدَمِّي ويـحتويني مِـريبْ

                       مـــنْ صـبـايِـهْ مـعـايـهْ مـــا لـظـلِّـهْ زوالْ

وإنْ تـفَـكَّرتْ فــي حـالهْ تَـرَكني عـطيبْ

                       يـبـتدي بــي بـحـالْ ويـنتهي بـي بـحالْ

إنّ هذا الإحساس الشعري المرهف ليس وليد الساعة ولا اللحظة الخاصة، بل هو عميق التجذر في القلب والروح، هو نبض يسري مع الدم ويحتوي الوجدان، نشأ مع محمد بن راشد منذ صباه المبارك الميمون حين كان يلازمه مثل الظل لا يفارقه فغدا فارساً من فرسان الشعر الذين يسبحون على ظهور القوافي كما تسبح الفرسان على ظهور الخيل الأصيلة المطهمة، وهو لشدة استغراقه في هذا الحس الشعري لا يستطيع التفكير به، فإن حصل وفكر في طبيعة هذا التدفق العجيب للشعر تركه عطيباً صريع القوافي واللحون، لا يكاد يصحو من حال حتى يأخذه الشعر إلى حال أخرى من حالات الإبداع والمغامرة في أودية الشعر وجبال الفنون.

تشخيص

وإنْ قـبضتهْ شـعاعهْ وصرتْ أحسِّهْ قريبْ

                        فَــرْ بـيـنْ الأصـابعْ وإخـتفىَ فـي الـظِّلالْ

مــنْ عـرفتهْ وعـرفني قـالْ لـي لا تـخيبْ

                       وقـلتْ لـهْ مـا بـخَيِّبْ لكْ مدىَ العمرْ فالْ

وما أروعه من تشخيص يتمّ فيه بث الروح في الشعر وإسباغ صفة الإنسان على هذا الإحساس الحبيب للقلب، وهذا هو شأن الشاعر العظيم، فحين يحبّ شيئاً يجعل منه إنساناً يخاطبه ويناجيه ويبوح إليه بأسرار قلبه، ومن منا لا يتذكر تلكم الحوارات بين صاحب السموّ وبين خيله الأصيلة التي تبرق عيونها بالسعادة حين تراه بعد طول غياب، وتشكو إليه لوعة الحنين لوجهه الصبوح، فهي تحبه وتفهمه، وتختال حين تراه قريباً منها يمسح على عرفها، فهو فارسها الذي لا تحب أن ترضخ لسواه، وهنا يجعل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من الشعر شعاعاً من نور يريد أن يقبض عليه بأصابعه، لكنه يتسرب منه ويهرب إلى الظلال، مجسداً بذلك علاقة من الحب المتبادل التي تقوم على البشرى والأمل والتفاؤل بالمجد والنجاح في كل المساعي الرائعة في هذه الحياة.

فارس

ومنْ علىَ الخيلْ سيرهْ بينْ صبحْ ومغيبْ

                       يـحـتـويهْ الـتَّـأمِّـلْ كـلِّـمـا بـــأرضْ جـــالْ

تـملكْ الـخيلْ وجـدي فـي هواها سليبْ

                        والـقَـنَصْ والـقصايدْ فـي وصـوفْ الـجمالْ

هذا هو الوجه الإنساني الرائع لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي يعرفه الناس سياسياً بارعاً وقائداً مقداماً، وبانياً لا يعرف الكلل، وفارساً لا يعرف التأخر، يريد أن يقول للناس ولنفسه قبل كل شيء: إنّ هناك جانباً آخر في شخصيتي أُحب أن تعرفوه هو حبّ الخيل وامتطاء صهوة الجياد والسير في ظلمات الليل شأن الفرسان الذين يجوسون الليل بشجاعة منقطعة النظير، ويشعلون نار السهر على جرّة الربابة فوق رجم عالٍ يتنسمون معه ريح الصحراء العليلة، فالخيل تملك وجدانه، والقنص هو هوايته المفضلة، وكتابة القصيد في الظباء الخاطفات للقلوب الساحرات للعيون أشهى أنغامه وأبهى ترانيمه. وما أروع هذه الثلاثية التي تضع سموه في طليعة الشعراء ضمن هذه الثلاثية الإبداعية التي يتطلع إليها أعظمُ الشعراء وسادة القوافي وأرباب القصيد.

أسئلة

ســاريٍ وسـطْ ظـلما مـثلْ طـيفٍ غـريبْ

                      مـتـعـبٍ خــيـلْ تـفـكيري أطــاردْ ســؤالْ

وشـفتْ أنِّـي بـعلمٍ مـا إنـكشَفْ لـلأريبْ

                       آتـــقَــرَّبْ لــحَــلِّ الـمـعـضـلاتْ الــثِّـقـالْ

إنّ هذا الشاعر الذي يحمل في قلبه حب الحياة، خيلاً وشعراً وفاتنةً حسناء، مشغول أيضاً بهموم الحياة وأسئلة الوجود، لا يعرف الراحة، بل هو من دوّاسي الظلماء في دياجير الليالي، وهذا من كمال الفروسية، فالليل للفرسان، وما أروعَ هذه الصورة التشبيهية التي يشبه فيها محمد بن راشد حركة الفكر بحركة الخيل التي يُضنيها كثرة المسير وهي تطارد القنيص والأعداء تماماً مثل حركة الفكر التي لا تكفّ عن مطاردة الأسئلة والبحث عن أجوبة المعارف الغريبة التي لا يهتدي إليها إلا الأريب اللبيب، لأنها هي الطريق لحل معضلات الحياة وكشف الغامض من أسرارها.

تفكّر

كـيفْ هـا الـكونْ يـجري في نظامٍ عَجيبْ

                       وكـيـفْ تـسري الـلِّيالي مـاضياتٍ عـجالْ

وويـنْ مبداهْ ها الكونْ الفسيحْ الرِّحيبْ؟

                       وويـنْ مـنهْ الـنِّهأيهْ فـي إتِّـساعْ المجالْ؟

يا لروعة هذا السؤال ويا لجلاله! فهذه هي أسئلة الوجود الكبرى التي تشغل العقول الكبرى والقلوب المتوقدة بزيت المعرفة، وكيف لا يكون ذلك كذلك وهو من صميم الفطرة التي ندبنا الله تعالى إليها حين أثنى على المتفكرين بهذا الجلال الرهيب فوصف من حالهم الحسنة، وذكرهم في سياق المدح والثناء، وقال في حقهم: {إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار} (آل عمران: 190- 191)، وفي هذا المقطع يتوقف محمد بن راشد أمام هذا الجلال الإلهي البديع الذي يتجلّى في هذا الكون الهائل الدالّ على عظمة الله تعالى وحكمته ورحمته فتخشع منه الروح، ويستكين منه القلب في حضرة ذي الجلال والإكرام، ويتساءل عن هذا النظام الرائع وهذا الاتساع الهائل الذي يكاد يخفى مبدأه ومنتهاه على الإنسان لولا لطف الله ونوره الذي ينير القلب والروح من خلال القرآن الكريم.

سرّ

عــنْ وجــودٍ بـذاتـهْ مـحتفي مـا يـغيبْ

                     وعــنْ وجــودٍ لـذاتـهْ مـخـتفي مـا يـطالْ

شَــفْ حـتَّـى تـظنِّهْ فـي يـمينكْ نـصيبْ

                     وخَـــفْ حــتَّـى تـظـنِّهْ ذايــبٍ فــي زلالْ

وهذا هو سر الأسرار في هذا الكون العجيب، إنها ثنائية الخفاء والتجلي ومحنة الظهور والبطون، فهو يكاد يختفي عن ناظر القلب حتى لا يكاد يظهر، ثم يظهر للبصيرة حتى يكون مثل الشمس سطوعاً، ويشفّ حتى يصبح مثل خيط النور ويرقّ حتى يصبح مثل الماء الزلال.

تعب

أرجــوْ الـعـذرْ لأنِّـي كـادْ راسـي يـشيبْ

                     مــنْ طـويـلْ إفـتكاري فـي أمـورْ الـمحالْ

وصـرتْ أسـمَعْ لـقلبي مـنْ عنايهْ وجيبْ

                   وأتـعـبتني الـلِّـيالي مــنْ عـنـا الإرتـحـالْ

ومـنْ يـفلسفْ وجـودهْ بـالجدَلْ ما يصيبْ

                 والــجـدَلْ دونْ تـعـريفْ الـمـعارفْ جــدالْ

وكما يتعب الفارس من طراد الفرسان وتتبع القنيص، يتعب العقل أيضاً من كثرة الأسئلة، وههنا يطلب محمد بن راشد من قارئه العذر لكثرة افتكاره في أسئلة الوجود الكبرى التي شاب لها رأسه وانحنى بسببها عود روحه، فهي تقلق الوجدان وتهزّ الكيان، ويعلو معها وجيب القلب وخفقانه أو اضطرابه، فضلاً عن تعب الارتحال وكثرة الأسفار وعناء الأسئلة وفلسفة المصير، لتكون نهاية القصيدة اعترافاً بالتعب الناشئ عن كثرة التفكير في شؤون الكون ومغزى الحياة، من خلال أسلوب الجدل والتفكير العقلي الذي لا يستطيع أن يجيب عن جميع الأسئلة، إلا إذا استمد من نبع المعرفة الصافي الذي هو كتاب الله تعالى المجيد.

عِلم

وفــي الـمـعارفْ حـيـاةٍ ربِّـهـا مــا يـخيبْ

                      تَـكْسيْ الـعلمْ وأهـلهْ منْ صفاتْ الجَلالْ

بـيـنْ شَــرٍّ وخـيـرٍ فــي الـصِّراعْ الـرِّهيبْ

                     نـجـعَـلْ الـخـيـرْ مَـبـدانـا وفــيـهْ الـنِّـضالْ

وهكذا يستقر إيقاع القصيدة ويجنح إلى الهدوء حين تلتمع الروح بالمعنى الصحيح البهيج للحياة، الذي هو من نصيب أصحاب العلوم الصحيحة والقلوب المطمئنة، فالشكوك لا تمنح القلب إلا القلق، بينما يخشع القلب في ساحة النور حين يستلهم الكتاب والسنة، وتكتسي الروح بصفات المهابة والجلال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، ثم كان القرار الحاسم وهو التوجه بالقلب والروح نحو ميدان الخير كمبدأ نهائي وخيارٍ لا حياد عنه، فهو قَدَرُ الإنسان العاقل المستنير بنور الوحي المكتسي بجلال العلوم الشريفة.

اعتراف

وكــلِّ شَــيٍّ بـقـيمهْ وبـاكـرٍ عـلـمْ غـيبْ

                       غــيــرْ أنَّـــا نـشـوفَـهْ بـإفـتـهامْ وخَــيـالْ

والـدَّلالهْ عـلىَ الـمفهومْ مـا هي صعيبْ

                        بــسْ كـيـفْ الـدَّلالـهْ دونْ كـيـفْ ومـثالْ؟

وهكذا تنتهي هذه القصيدة الرائعة عند هذا الأفق الجليل من الاعتراف بقيمة الإيمان كخيار أخير للإنسان فهو سرّ الوجود، والتسليم لله والإيمان بالغيب هما عنوان الإيمان، ولن يستفيد العقل من مغامراته إلا مزيداً من القلق والشتات؛ لأن الدلالة على المغزى لن تكون إلا بتكييف الأشياء وضرب الأمثال، وهو ما تكفّل القرآن ببيانه، وأراح الإنسان من عناء البحث عنه والتلظي بنيرانه.

Email