55 سنة ربة منزل من «وادي العبادلة» في الفجيرة

آمنة سالم الزيودي.. صانعة العسل

ت + ت - الحجم الطبيعي

«هذا صوت أبي، بوسعي أن أتعرف إليه، وهل يخطئ المرء صوت أبيه؟ يصدح بأذان صلاة الفجر من مسجد الوادي «حيّ على الصلاة.. حيّ على الفلاح». أنا طفلة صغيرة لكنني متعلقة به كثيراً إلى الحد الذي يجعلني أصحو لكي أستمع إلى صوته يشق الضباب ويصل إلى قمم الجبال البعيدة. إلى «الخوامة» و«الحد» و«الداج» و«السلول». ينفذ بين السحب ويتسرب إلى الشقوق والكهوف الصغيرة التي لطالما مددنا أيدينا في داخلها لكي نجني الأطايب الحلوة. هذا الصوت يجعلني أحلق وأشعر بفخر. أقول لصديقاتي في مدرسة دبا، حيث يعلموننا اللغة العربية والعلوم والرياضيات، إنني فخورة بأن أبي هو من يوقظ أهالي القرية من أحلامهم لكي يذهبوا للصلاة.

كان هذا منذ زمن بعيد، لكنني أشعر أنه قريب كأنه بالأمس، رغم مرور عقود طويلة، لكنني حين أمشي في «وادي العبادلة» اليوم، يرن صداه في أذنيّ، أتلفت حولي، أرى نخيلاً وبقايا بيوت حجرية، أرى عصافير صغيرة زرقاء وحمراء، عصافير تأكل النحل، أرى صخوراً حمراء وأخرى سوداء تتغير ألوانها تدريجياً، من رأس الهضاب وصولاً إلى عمق الوادي، لكنني لا أرى أبي، أبتسم وأترحم عليه.

كنت طفلته الوحيدة قبل أن ينضم إلينا ولد وبنت أخرى، لكنني ظللت «رفيقة أبي»، كما ظله. إن ذهب إلى دبا ذهبت معه، إن زار السوق في «مسافي» رافقته. في تلك الأيام لم يكن «سوق الجمعة» قد وجد بعد، هذا زرته بعدما كبرت. مع أبي كنت أمشي مسافات طويلة مغتبطة ومتحمسة دوماً، كان يحمل «الطاسة» (وعاء معدني)، ويحدد مواقع «الكفوف» (الكهوف والمقصود فجوات صغيرة في الجبال) التي يترك فيها النحل عسله، نقترب بحذر متجنبين السقوط من أعلى هذه المنحدرات الحادة، يطرد أبي الذباب المتجمع ويمد يده، ثم يخرجها فإذا بها قابضة على قطع كبيرة من العسل المشمع، ثم يقوم بتقطيعها إلى ما يشبه المكعبات ويضعها في «الطاسة» ويحملها على كتفه نزولاً، ثم مشياً في الوادي، وصعوداً باتجاه البيت. كنا نمشي لساعتين في بعض المرات سعداء بغنائمنا من العسل، كنت دوماً شجاعة ومتنبهة، لم أسقط يوماً، أنا لا أخاف الجبال رغم أنني، عليّ أن أعترف، أخاف أموراً أخرى، مثلاً أخاف صعود النخلة، لكنني أحب هذه الشجرة كثيراً، ولطالما عملت في سقيها، كما فعلت مع البصل والجرجير والرويد.

في ذلك الزمن، لم يكن العسل منتجاً غالي الثمن كما هو اليوم، وكان متوافراً بكثرة، وأيضاً طبيعته مختلفة. اليوم باتت مراعيه زهوراً وعشباً، وفي أيامنا كان يرعى فقط على شجر «السمّر» وعلى «السدر». لكل عسل لون، فالأحمر، وهو المفضل عندي لقوة فوائده العلاجية، يأتي من «البرم» وهي زهرة السمر، والأبيض يأتي من السدر، وهناك العسل الذي يميل لونه إلى السواد، لأن مرعاه مخلّط بين البرم والسدر والعشب.

في وادي العبادلة، تلك البقعة الخلابة في الفجيرة، أعيش بعيداً عن المسجد الذي كان أبي يؤذن فيه، بات غير مستخدم، إذ تطور البناء، وتم تشييد مبان كثيرة في شعبية «الحلاة»، لكنني إلى اليوم حين أصحو في الفجر أتخيل أنني أسمع صوته فأغمض عينيّ وأشعر بإحساس عذب وحلو.. مثل العسل!

 

علمتني الحياة

ـــ المرأة مهامها كثيرة ولديها قدرة التضحية والكفاح

ـــ الحياة في المزارع والوديان تجعلنا أشداء

ـــ لا شيء سهل، عليك أن تجدّ لتحصّل ما تريد

ـــ عليك أن تهتم بالمصلحة العامة وليس مصلحتك فقط

ـــ العائلة في لحظات اجتماعها نعمة وبركة

 

يأتي في حلمي

ـــ بحور من العسل وأنا على جذع نخلة

ـــ وجه أبي يوقظني للصلاة

ـــ طفلة في قعر الوادي تجد جوهرة

ـــ أنا في السوق أحمل طاسة عسل

ـــ عصفور يبحث عن النحل ولا يجده

Email