تحقق تقدماً اقتصادياً تغير من خلاله العالم

«هرمون» سري يُحفز نمو الصين

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ نحو نصف قرن، كانت هناك مقولة تتردد بين جنبات البيوت الأميركية، يقولها الوالدان لأطفالهما الصغار حينما يرضون عن الطعام ويرفضون تناوله، وهي: «تناولوا طعامكم، فهناك أطفال يتضورون جوعاً في الصين».

لكن ذلك كان في الأيام الخوالي. أما الآن، فقد تغير الوضع جذرياً، وصارت الصين تحقق تقدماً اقتصادياً تغير من خلاله العالم.

وبحسب تقرير نشرته مجلة «فوربس» الأميركية أن الصين تحوّلت من بلد نام، يعاني سكانه الفاقة والمجاعة، لتصبح اليوم قوة اقتصادية عظمى تهيمن على إنتاج العالم، وفي غضون أقل من 50 عاماً.

وأشار التقرير إلى أن الصين تواصل نموها الاقتصادي على نحو لم تحققه مطلقاً أي دولة كبرى أخرى غيرها. متسائلاً ما الذي حدث تحديداً، وما هو السر وراء هذا النجاح؟

3 عوامل

وأرجعت «فوربس» الازدهار الكبير والتحول في اقتصاد «التنين» إلى ثمة ثلاثة عوامل حاسمة تُعزَى إليها هذه المعجزة الاقتصادية التي صنعتها الصين. وهذه العوامل هي: تعداد سكاني هائل، كفاءة الإنتاج وكثافته، وأخيراً رأس المال. وبتعبير آخر، ما اصطلح المتخصصون في علم الاقتصاد على تسميته «إنتاجية مجمل عوامل الإنتاج».

والآن، فلنحلل على حدة كل عامل من هذه العوامل الثلاثة التي قفزت بالناتج المحلي الإجمالي للصين إلى معدلات غير مسبوقة.

فمنذ أن بدأت الصين تطبيق إصلاحاتها الاقتصادية في عام 1978، أي منذ أربعة عقود كاملة، باتت معدلات النمو السنوي لمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي التي تسجلها الصين مستقرة حول 9%، وهو أداء خرافي، بالنظر إلى أن البنك الدولي أن 2% يعتبر معدلاً ممتازاً.

وبحسب تقرير المجلة الأميركية فقد ساهم مخزون رأس المال الطبيعي في تحقيق نصف معدل النمو الاقتصادي في الصين خلال الفترة بين عامي 2000 و2012، بينما أسهمت إنتاجية مجمل عوامل الإنتاج في تحقيق ثلث معدل النمو خلال نفس الفترة. وأما خلال الفترة التي سبقت عام 2000، كانت المساهمة الأكبر للقوة العاملة.

وكان المزيج المتكون من العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه هو المحرك للنمو الاقتصادي المذهل في الصين.

طاقة السكان

وأوضحت «فوربس» لقد أثبت عدد السكان الهائل في الصين أنه نعمة إلهية. قبل أن تطبق الصين سياسة إنجاب طفل واحد فقط في عام 1979، وهي السياسة التي تعرضت لانتقادات حادة في الداخل والخارج، كانت الصين تمتلك معدل مواليد هائلاً. وأدى ذلك إلى ارتفاع تعداد السكان القادرين على العمل في الصين (من سن 15 وحتى 64 عاماً) إلى مليار نسمة بحلول عام 2014. وقد كان من حسن الطالع فيما يبدو أن تتزامن القوة العاملة غير المتناهية هذه مع اتجاه الصين إلى التصنيع بكثافة. فحينما تدير اقتصاد ما قبل التصنيع في مرحلته الأولى، يتعين عليك أن تركز على الزراعة، ذلك أنها برغم عدم احتياجها إلى عمالة ماهرة، إلا أنها تحتاج إلى عمالة بالغة الكثافة.

نموذج التنمية

وأضاف تقرير مجلة فوربس الذي أعده بيتر فام «أن الصين نجحت في اتباع نموذج التنمية الرأسمالي الصيني بالاتجاه إلى التصنيع. وتطلب الأمر عمالة على قدر أكبر من المهارة، إلا أن الاحتياج ظل مستمراً إلى عمالة كثيفة على نحو هائل. وعليه، انتقلت القوة العاملة الجبارة في الصين من الحقول إلى المصنع.

ومؤخراً، بدأت الصين تسير على نفس نهج خصمتيها الآسيويتين اللدودتين، اليابان وكوريا الجنوبية، حيث انتقلت صوب قطاعي التقنية والخدمات.

ومن حسن طالع الصين مرة أخرى، أن مهارات قوتها العاملة، أو ما يطلق عليه رأس المال البشري، قد تطورت بنفس سرعة تطور اقتصادها. فلكي ينمو اقتصادك، فأنت بحاجة إلى قوة عاملة كبيرة بما فيه الكفاية، وأيضاً مزودة بالمهارات اللازمة».

الطلب على العمالة

وبحسب تقرير مجلة فوربس وفي بداية حقبة التسعينات من القرن الماضي، ارتفع الطلب على العمالة الماهرة في الصين على نحو غير مسبوق، نتيجة زيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد. وأدى ذلك بالتبعية إلى زيادة معدل الالتحاق بالجامعات، خاصةً في المناطق الحضرية.

ولا تقتصر فوائد الاستثمار في مهارات السكان وتعليمهم على الأفراد فحسب، وإنما تمتد لتشمل حركة التصنيع ككل، ذلك أن انتاجية العمال ترتفع. وعلاوة على ذلك، والأهم من ذلك، فإن جودة ونوعية انتاجهم ترتفع أيضاً.

ونتيجة لكافة ما سبق، ارتفعت رواتب العمال في الصين، بعد أن ارتفعت ربحية الشركات العاملة هناك، سواءً كانت محلية أو أجنبية. حينما تنمو الشركات والمجتمع بالتزامن مع بعضهما البعض، لن تتأثر الشركات بارتفاع كلفة العمالة. باختصار نحن نتحدث عن حالة يستفيد منها الجميع، وهذا هو ما يدفع الاقتصاد إلى الأمام.

ثقافة»المحاكاة

يقولون إن التقليد أعلى درجات الإطراء ومن الصعوبة الشديدة بمكان أن تجد شيئاً هذه الأيام غير مصنوع في الصين. لذا، كيف استطاعت الصين أن تهيمن على الإنتاج الصناعي على هذا النحو؟

وبحسب فوربس فإنه حينما بدأت حركة التصنيع الصينية، كان محركها الرئيسي هو ثقافة «المحاكاة». فخلال العقد الأخير من الألفية الماضية والأول من الألفية الحالية، استطاعت الصين على نحو سريع أن تؤسس لنفسها مكانة كمعقل عالمي لتقليد العلامات التجارية الشهيرة. واستفادت الدول المتقدمة من هذه الشهرة، فبدأت تلجأ إلى عملية تعهيد انتاجها في الصين. وهكذا، بدأت المعرفة الفنية والخبرات تنتقل إليها.

وسرعان ما صار المتدرب أستاذاً؟ ومع المعرفة الجديدة المكتسبة، باتت الصين قادرة على صنع منتجات أكثر تعقيداً وتقنية أكثر تقدماً. وسرعان ما باتت شركات التصنيع الصينية أكثر معاصرة وابتكاراً.

ولا تنطبق المقولة الشهيرة «أعطني سمكة تطعمني يوماً، ولكني علمني الصيد تطعمني دهراً» على أحد بأفضل ما تنطبق على قطاع التصنيع في الصين.

ففي عام 2009، كلفت الحكومة الصينية شركة «كاوازاكي» اليابانية للصناعات الثقيلة بإنشاء نظام للسكك الحديدية ذات السرعات الفائقة، لكنها اشترطت عليها أن تُعَلٍم المهندسين الصينيين أحدث التقنيات الأساسية المتعلقة بهذا الشأن. ولم يمر وقت طويل، إلا وكانت الشركات الصينية تستخدم نفس هذه التقنيات في تنفيذ مشروعات سكك حديدية فائقة السرعة، ليس في الصين فحسب، وإنما في كافة أنحاء الكرة الأرضية. وأدى ذلك إلى إفقاد «كاوازاكي» ميزتها التنافسية.

السيارات الكهربائية

وعلى نفس النهج، أجبرت الصين شركات السيارات الأجنبية العاملة بها على تزويد الشركات الصينية التي تنتج سيارات تعمل بالطاقة المتجددة بالتقنيات والمعرفة اللازمة في هذا المجال.

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن بكين تطمح لأن تصبح مركز صناعة السيارات الكهربائية في العالم.

ولدينا قطاع ثالث تعاملت معه الصين على نفس النحو، وهو صناعة الأدوية، الذي يبلغ حجم سوقها في الولايات المتحدة الأميركية وحدها 115 مليار دولار.

أسرار التقنية

وأجبرت الصين شركات الأدوية الأجنبية الراغبة بالعمل فيها على نشر أسرارها التقنية ومنحها لشركات الأدوية الصينية. وفي حال امتثلت الشركات الأجنبية لهذا الشرط، فإنها تحظى بموافقة سريعة على العمل في الصين وتحصل على التراخيص اللازمة في زمن قياسي.

رأس المال الأساس

وكان رأس المال عاملاً شديد الأهمية أيضاً في الحفاظ على استمرارية النمو الاقتصادي في الصين. وبجانب رأس المال، فإن الاقتراض أيضاَ كان له دور هام في تحريك الاقتصاد الصيني. فاتباعاً لنظرية «تنمية رأس المال الصيني»، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، تحملت الصين ديوناً من أجل الاستثمار في الشركات التجارية. وخلال الفترة بين عامي 2008 و2014، أخذ الائتمان الذي تتحمله الصين يواصل ارتفاعه، وهو ما وَلّدَ أرباحاً وعزز النمو. وفي غضون ذلك، فرض عملاق آسيوي آخر، وهو اليابان، قيوداً على الاقتراض، وهو ما أدى إلى انحدار النمو في الناتج المحلي الإجمالي في اليابان حتى أوشك أن يصل إلى الصفر.

إعادة التوازن

وبحسب تقرير المجلة الأميركية تسعى الصين في الوقت الراهن إلى إعادة ترتيب اقتصادها. فمنذ عام 2000، ارتفعت نسبة مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى 8%، بينما أخذ قطاع الصناعات على النقيض من ذلك يفقد أرضه. وستعمد الحكومة الصينية إلى تعزيز هذا الاتجاه، ذلك أن قطاع الخدمات يتيح فرصاً أفضل للنمو والتوظيف.

والآن، فقد علمنا كيف استطاعت الصين تحقيق هذا النمو الاقتصادي المذهل من خلال رأسمال طائل، قوة عاملة جبارة، وعملية انتاجية ذات كفاءة عالية، وذلك بتقليد واقتراض المعرفة والتقنيات من الشركات الأجنبية.

اجتياز العقبات

وتبدو الصين ماضية في طريقها سعياً إلى الحفاظ على نموها الاقتصادي ولا أحد يستطيع ايقافها، بل هي قادرة على اجتياز كافة العقبات. إنها تقفز على سلم النمو وتتجه إلى قطاعي التقنية الفائقة والخدمات لأنهما يدران هوامش أرباح أعلى.

إن العامل الأساسي لنجاح الاستثمار الذكي هو معرفة الاتجاه الذي يتحرك الاقتصاد صوبه. الأمر أشبه بتتبع اتجاه مجرى النهر، فإنك ستظل تتبعه حتى تعلم أين هو المنبع. وهذا هو تحديداً ما فعلته الصين، وبنجاح مبهر.. إنها عرفت أين هو منبع النمو الاقتصادي واتجهت إليه، فاستطاعت تحقيق نمو اقتصادي غير مسبوق، وتسعى باستبسال إلى الحفاظ عليه.

Email