أقباس نورانية في قوالب مسكونة بحب الحقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أعماق كل شاعر نداءان يتكاملان ولا يتفاضلان، ويتناغمان ولا يتناقضان، هما: نداءُ القلب ونداء العقل، وقديماً قال أبو عثمان الجاحظ رحمه الله في معرض الموازنة بين هذَيْن النداءين: «ولم تزل الدولة للقلب على العقل»، وهذا شأن أرباب الشعر على وجه الخصوص، فهم أكثر الناس حفاوة بنداء القلب وفيوضه، وبإيحاء من هذا الإحساس يكتبون أجمل القصائد في الحب والغزل وحب الوطن، ومناقب الرجال، واحترام التقاليد الأخلاقية وغير ذلك من فيوض القلب وترانيمه، ولصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، القدحُ المُعلّى في ترانيم القلب وأشجان الروح، فهو من طليعة الشعراء في هذا السياق، وأشعاره في حب الوطن، وشيخ الوطن الخالد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، ورجالات الوطن وأبنائه وإنجازاته، وقصائده الباهرة في خفقات القلوب وعذابات الروح في أبواب الحبيبة، هي من أروع تجلياته الشعرية وملكاته الإبداعية.

لحظات نورانية

لكن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهو القائد المتمرّس، والحاكم الشجاع، والفارس المَهيب، يختلس من بين أوقاته المزدحمة بالعمل سُوَيْعاتٍ يخلو فيها بنفسه، ويُطلق فيها للعقل عِنانَ التأملات لاقتناص حكمة الحياة، وتدوين بعض لحظات العقل النورانية التي تشهد بعمق بصيرته وقدرته على الجمع البديع بين نداءات القلب وفيوض البصيرة والعقل.

في هذه القصيدة الموسومة بوسم (عن المسؤول)، حوار عميق وفطري بين الوعي بالواقع من خلال ثنائية المحسوس والمعقول، وهي الثنائية التي تؤرّق العقل الإنساني منذ بواكيره الأولى، فالإنسان بما هو كائن عاقل يتوق دائماً إلى المعرفة بالأشياء المحيطة به معنى ومبنى، ولكن المعضلة تحدث حين يشتبك المعقول بالمحسوس، فالمحسوس الذي تنقله لنا الحواس، من بصرٍ وسمعٍ وذوقٍ وغيره، أسهل تعقّلاً وإدراكاً من المجردات التي هي أقرب ما تكون إلى الفلسفة والمنطق التجريدي الذي يبحث عن الحقائق المجردة بعيداً عن سياقها المادي، مثل القيم المعنوية: كالخير والشرّ والشجاعة والكرم ومنظومة الأخلاق بشكل عام، ويصعب جداً على غير أصحاب العقول المستنيرة بنور المعرفة، التخلص من مشكلات القضايا التجريدية التي يكثر فيها الجدال والخصام حول الحقيقة، وهو ما تتسم به الفلسفة والمنطق على وجه الخصوص.

وفي هذا السياق يقرر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في مطلع القصيدة عمق هذه المشكلة، فالصورة المعقولة بالحواس سهلة التصور لأنّ هناك مساندة من الأحاسيس توضحها وتجعلها أقرب إلى الفهم، أما المشكلة ففي القيم المجردة التي يختلف فيها البشر بسبب اختلاف رؤيتهم للحياة، فلا يختلف اثنان على جمال الشجرة الخضراء والروض اليانع بالأزهار، لكنهم قد يختلفان حول بعض القيم الأخلاقية، فما يكون جليلاً ومحبباً في ثقافة ومجتمع ما، قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، فالكرم مثلاً عند العرب هو إحدى القيم العليا في الشخصية العربية، لكنه في الثقافة الغربية مظهر من مظاهر السرف والتهور وقلة التدبير، وهو ما عبر عنه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بهذا المطلع، الذي يتساءل بقلق ملحوظ عن هذه المعضلة المعرفية بين البشر:

الـصِّـورَهْ الـلِّـي رسَـمـها الـعقـلْ لـلمـعقـولْ
فـيـهـا أحاسـيسْ تـاخـذْ بـالـصِّوَرْ بـرهـانْ
أمَّــا الـمِـجرَّدْ فـمشكِلْ ماحصَـلْ محصـولْ
مِـثْـل الـشَّـرَفْ والـشِّـجاعَهْ مـالـها تـبـيــانْ

بعد ذلك، تزداد الأسئلة عمقاً ووضوحاً ودلالة على الحيرة الروحية التي تسيطر على الإنسان حين يفكّر بالمشكلات الإنسانية المجردة، بعيداً عن تحقّقها المادي في الحياة، فكيف نرسم صورة للكائن المجهول، فنحن نُحسّه ولكنه ليس تحت سيطرة الحواس الخمس، وهذا ما يُسمّى بالحدس والوجدان، وأحياناً يتسرّب مثل هذا القلق الروحي إلى مفهوم الإيمان، فالإنسان يحس بالقيمة العظمى لمشاعر الإيمان ومدى السكينة والسلام التي تعمر القلب لكنه ربما عجز عن برهنة ذلك وإقناع الناس بهذا الإحساس الوجداني الفريد، حتى قالت بعض الأديان لحلّ هذه المشكلة: (آمِنْ ثمّ اسألْ)، في إشارة إلى أنّ حقائق الإيمان لا تتجلى في القلب والعقل إلا بالممارسة والعمل والتحقق بالقلب.

ثمرة تأمل

يـاكـيـفْ نــرسـمْ وجـــوهْ لـكـاينٍ مـجـهــولْ
نـحـنـا نـحـسِّـهْ وَلَــكِـنْ نـجـهـلْ الـعـنـــوانْ
لـلـخـيـــرْ والــشَّــرْ والــعــلاَّتْ والـمـعــلـولْ
تـفـسيرْ يـوضَـحْ ويـخـفىَ ويــوزَنْ بـمـيزانْ

إنّ هذه التساؤلات العقلية هي ثمرة التأمل العميق في مشكلة الوعي الإنساني، ومهما حاول الإنسان أن يجيب عن أسئلة الوجود الكبرى، فإنّ العقل سيتخلى عنه في لحظةٍ ما وعند نقطةٍ ما، وفي هذه اللحظة يأتي العون الإلهي من خلال نور النبوّة وبرهان القرآن، فهما اللذان ينيران القلب والعقل بحقائق الوجود الغيبي والمنظور، ولا أعتقد أنّ هناك إنساناً أقبل على الله بقلبه وعقله إلا وغمرته أنوار الحقيقة وشعر بطمأنينة القلب وسكينة الروح والمعرفة الصحيحة للوجود {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.

لقد تمّ تقرير هذه الحقيقة البديعة في المقطع التالي من القصيدة، حيث أبدع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، في الصياغة الشعرية لهذه المشكلة المعرفية المؤرّقة للروح الإنسانية، فجاءت الأبيات التالية لتوضّح لحظة النور والهداية المستفادة من الإيمان ومعطياته، التي لا تخذل القلب والروح:

والـمـنطـقْ إيـقــولْ أنِّ الـشَّـكلِ لـهْ مـدلــولْ
ولــي مـاتـشوفَهْ بـعـيـنـكْ شـوفَهْ بـالإيمــانْ
فـلـسِفْ وجــودكْ لـذاتـكْ وإنـتهْ الـمــسؤولْ
إِنْ خـانكْ الفهــمْ وأمسىَ العقلْ بكْ حـيرانْ

أمانة الاختيار

فالمطلوب حتْما من الإنسان أن يكون واعياً بمغزى وجوده في هذا الكون {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}، وهو مؤهّلٌ بحكم العقل الذي وهبه الله إياه ثم بنور الرسالة التي أكرمه بها أن يصل إلى الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، وهي أنّ لهذا الكون خالقاً عظيماً حمّل الإنسان وشرّفه بأمانة الاختيار والتكليف والعبودية، فإذا انشغل عن هذا الشرف العظيم فهو الخاسر وهو الساعي في إطفاء نور العرفان واليقين والإيمان:

ولــكـلْ شـــيٍّ نـهــايِهْ لــوُ الـزِّمــانْ إيـطـولْ
والـخـالدْ الـفِـكرْ ومـاهـي خـالـدِهْ الأبـــدانْ
ومـادمـتْ حَــيْ وتــفـكِّرْ لــي يـزولْ إيــزولْ
بـيـتمْ فـكـركْ طــري لــوُ يـختفي الـجثـمانْ

وهذا المقطع الرائع هو جوهر القصيدة وسرّها الذي يضيء فكرتها الأساسية، فصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يريد الحفاوة بقيمة التفكير كقيمة إنسانية خالدة، وهي الباقية بعد ذهاب الإنسان، فالواجب على العاقل ألا يطفئَ سراج عقله الوهّاج بقلة التفكير والسير في دروب الغفلة، فالتفكير العميق الذي يؤدي بالإنسان إلى معرفة جوهر شخصيته له لذّةٌ لا تعدلها لذة، وهو ما كان يعبّر عنه أسلافنا الكرام بمفهوم (العرفان)، حيث تستنير الروح بمعرفة سرّ الوجود ويسجد القلب في حضرة الله الكبير المتعالي، فالفكر هو الخصيصة الجوهرية للإنسان، حتى قال الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت مقولته المشهورة: (أنا أفكر، إذنْ أنا موجود)، فالفكر هو الباقي وهو الميراث الذي لا يذبل بل يظل طرياً أخضر حتى لو تلاشى الوجود المادي للإنسان.

حكمة خالدة

شـفتْ الـحيـاهْ وعِـشِتْها بـينْ عَـرضْ وطـولْ
وماشفتْ أقسَىَ مِنْ الجَـهْلْ ومنْ الحرمــانْ

ولكل تجربة عميقة في الحياة حكمتها الخالدة، وصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، بحكم طبيعة تفكيره وانخراطه بصناعة الحياة: مادة ومعنى، فكراً وسياسة، شعراً واقتصاداً، هو من أقدر الناس على استخلاص حكمة الحياة بعد هذه المسيرة الطويلة الميمونة في الترقي في سلّم المجد والإنجاز، يقرر لنا في هذا البيت الذي لا يخلو من نبرة الحزن والألم على الإنسان الذي لا يدرك قيمة وجوده، أنّه يعرف دقائق الحياة وتفاصيلها، وعاشها بكل تجلياتها: يسراً وعسراً، فرحاً وحزناً، نجاحاً وتحديات، فلم يجد خسارة أعظم في الحياة من خسارة الإنسان لنعمة العلم والمعرفة، فالحرمان الأعظم هو الحرمان من نور المعرفة المستفادة من علوم العصر وأنوار القرآن وتعاليم الأنبياء، وأن الفائز الحقيقي هو الإنسان المستنير العقل بالمعرفة والعلم مصداقاً لقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}، ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يُورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظِّ وافر)).

عطش للمعرفة

وردِّيــتْ عـنـدْ الـحـقيقَهْ وبـابـها الـمـقفــولْ
وحـاولـتْ أفـتَـحْ قـفِـلها ورفـضَـتْ الـبـيبانْ
ولـلـحـيـنْ وآنـــا أحـــاولْ فـتـحَـها وآقــــولْ
أكــيـدْ فـــي يــومْ بـقـدَرْ أفـهَـمْ الإنـــسـانْ

إنّ الحقيقة مراوغة، ومهما حاول الإنسان أن يمسك بها فهي تتسرّب من بين يديه في لحظة غفلة وعدم انتباه، ومهما أطال الإنسان الوقوف عند بابها لكن هذه البيبان (جمع باب وما أحلاه مِن جَمْع)، تبقى عصيّة على الفتح إلا لمن أدمن القرع، وأطال الوقوف، وصمّم على أن يقتبس من نار الحقيقة قبسةً يضيء بها قلبه، فالمعرفة مثل الحبيبة الواثقة لا تعطي نفسها إلا لفارسها بعد طول تمنّعٍ ودلال، وهذا يستدعي من الفارس مزيداً من التصميم للوقوف على السرّ، وإبهاج القلب بماء المعرفة الصافي، فالروح تعطش للحقيقة وتشتاق إليها، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ((إنّ حاجة الناس للعلم أكثر من حاجتهم للطعام والشراب))، وصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، نموذجٌ يُحتذى في التصميم والإرادة القوية، لذلك جاء البيت الأخير تأكيداً على هذه الحقيقة، وأنّه كما قال موسى عليه السلام: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضيَ حقباً}، في إشارة إلى التصميم النهائي على بلوغ الحقيقة، فكانت هذه الخاتمة البديعة المؤكدة على العزيمة المصممة لمعرفة الحقيقة مهما طال الزمان والوقوف.

جميلة جداً هذه التأملات يا سيدي صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وجميلة هذه الرؤى التي تمنحنا العزيمة واحترام المعرفة، والبحث عن القيمة الحقيقية للإنسان بعيداً عن الهزيمة والرضا بالحياة الفارغة والمصير المجهول.

Email