ترياقُ القلب وبوح فارس نبيل في هدأة الليل

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تكون القصيدة متلاحمةَ المبنى والمعنى، فاعلم أنها صادرة من قلب مسكون بالشوق والحنين، فهي التعبير الصادق العميق عن نار العشق المتوهّجة بالجمر، وهي الترنيمة التي تُشبه جَرَّة الربابة في هدأة الليل فوق رُجمٍ عالٍ، يُسامرُ فيها الشاعر القمر، ويشكو همومه لنجوم الليل وأنغام القصيد.

ولصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مقامٌ عالٍ رفيعٌ بين شعراء الوجد والحنين، وشعرهُ الوجدانيُّ قطعةٌ من ذَوْبِ قلبه، وليس كلاماً مرصوفاً من بحرٍ وقافية وحروفٍ وأصوات، بل هو نداءُ القلب للقلب وحنين الروح للروح، ولا يمكن لدارس شعره أن تكتمل رؤيته لهذا الفارس الجوّاب على ظهر حصانه الأصيل، إلا بأن يتذوّق هذا الغناء الصافي، كي تكتمل ملامح الصورة الفريدة لهذا الفارس المقدام، والفروسية منذ القديم لا تكتمل إلا بالحب، ولا يكتمل الحب إلا بتفريغ القلب من غير الحبيبة، ومهمة الفارس هي التأكيد الدائم للحبيبة أنها سيدة هذا القلب.

في قصيدة «عِسَلْ» غناءٌ أصفى من العسل، وحنينٌ يصل إلى منابع الدمع في القلب، وما زالت الفرسان تذرف دمعة الوجد ساخنة تُخفّفُ بها من لوعة القلب، وتطفئ بها من جمر الحنين، ورحم الله ذا الرُّمّة حين قال، على لسان جميع العشاق الصادقين:

لعلّ انحدارَ الدمع يُعْقبُ راحةً

من الوجدِ أو يَشفي نَجِيّ البلابلِ

في مطلع القصيدة، اعترافٌ يستوعب كلّ ما بعده من ترانيم، فالحبيبة هي الأغلى، والقلب ملك خاصٌّ بها لا يُزاحمها عليه مخلوق، وهل تريد الحبيبة أكثر من هذا المجد وأعلى من هذا الاستبداد:

غــلاكْ عـنـدي عَــنْ جـمـيعْ الـمـخاليقْ

مـاحـدْ غـيـركْ سـاكـنٍ فــي خـفـوقي

فهي سيدةُ القلب الخفّاق بحبها، المنتعش بعطر خُزاماها، المبتهج بطيفها الذي يمنح الفارس لذة الحياة، وهي الملكة التي وصفها الشاعر البدوي وهو يتجرّع غُصّة الأسى والحنين بقوله:

يا حِبّي اللي بين بيض الغنادير

لك في عروش القلب قدرٍ وقيمهْ

وهي بروعة العسل الذي يشربه الناس على الريق طلباً للعافية التي تبعث الحياة في الروح، وتجعل القلب يرفّ رفيف الزهر تمطره السماء، فكيف إذا كانت هذه الحبيبة ساحرة الطرف، فاتنة الجمال، مُشرقة الوجه، عندها تكتمل فرحة القلب بهذا الجمال الخلّاب الذي هو نور من نور الشمس ساعة الشروق، حيث ينتشر ضوؤها ويعمّ الأرض ويبعث الحياة في الوجود:

إنتي العسَلْ لي يشربونهْ علىَ الرِّيقْ

نِـوركْ شعاعْ الشَّمسْ وقتْ الشِّروقي

مدار آخر

وللشعراء غرام برشف ثنايا الحبيب على الريق، لأنه يكون على الطبيعة، ويبدو أنّ هذا الأمر لم يسلم منه أحد. ومن أبدع ما قالته العرب في فخامة شأن الريق وكَونه دواءً لقلب العاشق المكلوم، قول الشاعر الهذلي العاشق عبد الله بن مسلم:

فقولا لها قولاً رفيقاً لعلّها

سترحمني من زفرةٍ وعويلِ

بريقتها أوْ ريح ثوبٍ أشمُّهُ

فتعرف روحي ريح روح خليلي

لكن سيدنا «بو راشد» يتجاوز ذلك، ويدخل في مدار آخر لا يطيق الدخول فيه إلا الفرسان الشجعان والصوفية أهل العرفان، فقد غدا طريحاً لا يفيق من نشوة الظفر بالمحبوب، وتسلّلت إلى جوانحه حُمَيّا خمرة الحب التي لا يشربها إلا أكابر الرجال:

سـكـرانْ مِـنْ حِـبِّكْ مـضيِّعْ ولا آفـيقْ

عــلـىَ مـزاجـي وكــلْ مـافـيكْ ذوقــي

والسُّكرُ الذي يمثله غيابُ العقل في حضرة الحبيب، هو السُّكر المحبّب الذي يتعشّقه الشعراء والصوفية، ويرون فيه كمال الوصل وجلال الخضوع، حتى قال ابن الفارض تعبيراً عن ذلك:

سقاني حبيبي من شراب ذوي المجدِ

فأسكرني حقّاً فغبت على وجدي

تمازج

ويوضّح صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم سبب هذا الشعور الفريد، وأنّ ذلك إنما هو ناشئ عن كمال الانسجام مع مزاج الحبيبة التي اكتملت فيها كل معاني الجمال، فكانت على تمام ذوق فارسها وعاشقها الذي يغيب في ظلال جمالها عن هذا العالم، اكتفاء بما يجتنيه من ثمرات الأنس والسكينة في حضرتها الجميلة.

قـابـضْ غـرامكْ عَ الـنِّفَسْ والـمخانيقْ

آحـسْ مـعْ دمِّـي جـرىَ فـي عـروقي

وما قيمة الحب إذا لم يكن الحبيب آخذاً بمجامع النفس والروح، بحيث تتنفّس الكبد من ذكراه، وينصدع القلب حين يمرّ طيفه، فالحبّ الصادق لا يعرف العواطف الباردة، بل هو الجمرُ الملتهب يذوب له الكبد، ويجري دم الحبيب في دم العاشق تعبيراً عن التحام الروحين وتواخي القلبين، ويا لروعة ذلك الشاعر البدوي الذي عبّر عن تمازج الروحين أبدع تعبير حين قال:

سَخّرْتْ لَكْ مِشاعر الشوق تسخير

وامطرتْكْ بحبٍّ تَقَفّاهْ دِيْمهْ

وظلّلْتّكْ بجفني وصارتْ مِسافير

يوم الغلا بين النديم ونِديمهْ

والحبّ الصادق كنز الروح، ولا يوجد عاشق يبوح بأسرار كنزه، فالحبّ هو السرّ المطويّ بين الضلوع لا يبوح به العاشق ولو أدى ذلك إلى تلف نفسه، فهو علامة الوفاء والفروسية، ولا يفسد الحب إلا إذا أصبح حديثاً للناس، وكم كان يذوب العاشق ويضوى، وهو يطوي أوجاع قلبه في حنايا الضلوع، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله:

كـتَمتْ أسـمِكْ فـي الـصِّدورْ المغاليقْ

لــوُ كـانْ كـتمانهْ مِـنْ أسـبابْ عـوقي

فاسم الحبيبة مكتوم في أعماق الصدر حفاظاً على سمعتها وكرامتها، لأن الحب عند العرب من كمالات الإنسان وليس مجرد نزوة وطيش، بل هو مقتضى الفطرة السليمة، وهو الطريق إلى تهذيب النفس وإشعال نار المجد والفروسية، والكتمان من أخلاق الرجال الكرام، وهو الوصية التي يوصون بها القلب مهما كان متألماً وموجوعاً:

حفظت الشوق في قلبي

ووصّيتهْ على الكتمانْ

لقيت الشوق في قلبك

على قلبي وضِمّيتهْ

ميثاق

ولم يكتفِ صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهو الفارس النبيل الذي يعرف قيمة الحبّ في أدبيات البداوة والأصالة العربية، لم يكتفِ بالكتمان، بل أعطى الحبيبة الميثاق الغليظ والعهد الأكيد بأن يظلَّ حُبّها سِرّاً مطويّاً في حنايا ضلوعه وفاء لها، واحتراماً لكبريائها، فالحبيبة لؤلؤة مَصونة وجوهرةٌ غالية، ولا يجوز في شِرْعة العشق أن تكون مبتذلة للألسنة، بل هي أميرة القلب، وسيدة الروح التي تستحق كل هذا الصبر والكتمان من قلب العاشق الودود الصدوق:

وعـطيتْ لـكْ صـادقْ غلاضْ المواثيقْ

مــا آبـوحْ بـهْ و أنـا الـمودْ الـصِّدوقي

وما أجمل هذه اللغة العفوية الطرية طراوة الحب الصادق «المودْ الصِّدوقي»، فهي مثل الحرير الناعم نعومة قلب العاشق الفارس الذي يفارق شكيمته وبأسه الشديد، حين يصل إلى رِواق الحبيبة ويقف منتظراً نظرة منها تُحيي هذا القلب الذي تذبل وروده حين ينقطع عنه المدد وعطاء القلب.

ثم كانت هذه الخاتمة الجميلة تأكيداً لجميع ما تقدّم من المشاعر الصادقة، والتصميم الأكيد على الوفاء للحبيبة وصيانة هذا الحب، والاحتفاظ به في أعماق أعماق القلب، فهو يعاهدها في البيت الأخير على أن تظلّ غرامه وشوقه إلى آخر يوم في حياته، وإلى آخر نَفَسٍ في الصدر، وهو ما عبّر عنه بهذه اللغة الرقيقة التي تليق بالحب والحنين حيث يقول:

يـالـينْ آخــرْ يــومْ لــكْ فــي الـمعاليقْ

وآخـرْ نـفَسْ وإنتي غرامي وشوقي

ورحم الله الشاعر الأموي الأحوص، حين قال تأكيداً لهذا المعنى السامي في الحب:

سيبقى لها في مُضمرِ القلب والحشا

سريرةُ وُدٍّ يوم تبلى السرائرُ

قليلةٌ في حقّك كلمة «أبدعتَ» يا صاحب السموّ.

Email