عتاب رقيق ينبع من قلب مفطور على حب الخير

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُصرّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي (رعاه الله) على أن يكون متفائلاً دائماً حتى لو كان مقبلاً على أسد، وجريئاً في كل المواقف التي تتطلب جرأة، فهو شاعر ذو جَلد لا يكلّ ولا يملّ، ولا يخاف من المواجهة.

ـ اقرأوا معي قصيدة سموه وهي جديدة في وزنها جديدة في مبناها ومعناها ومغناها وعنوانها (ليالي السعد):

يا ليالي السعَـدْ

طاير الشوق غرّد

والهوى الحلو كله

عند ظبي السليل

طعم ريقه شهد

من آذوقه آتشهد

به شفا ألف علّه

أنا منه العليل

معه روحْ وجسد

لو جرحنا مجرد

ما درى من يسِلّه

أي دمّ يسيل

ـ لا يزال شاعرنا يشكو جفا الخليل الذي لا بد من صداقته، لكن يختلف الخلّ في هذه المرة، فهو من العيار الثقيل الذي يكنّ له شاعرنا كل الود والتقدير، والشيخ محمد بن راشد باعتباره شاعراً ذا حسّ مرهف، يحمل في قلبه أسمى معاني الإنسانية والقيم الأخلاقية الجميلة.

روح عالية

ـ وبصفته فارساً لا يُشق له غبار فإنه يتعامل مع الناس في مختلف القضايا بروح رياضية عالية بعيداً عن المزاجية والنرجسية، ويدعو الناس إلى مثل ذلك التعامل أيضاً، لذا يتألّم عندما يرى صديقه العزيز وخلّه القديم يتحوّل إلى خل لا يراعي شعور أخيه، ورحم الله الشاعر الذي قال:

لي صديق ألزمت نفسي هواه

كالتزامي للكسر في راء «جَيرِ»

وأنا مثل واو عَمرو لديه

زائداً أو كمثل ياء زهير

أنا راض منه إذا قلتُ يوماً

كيف أصبحت أن يقول بخير

ـ لقد استهلّ الشاعر قصيدته بجملة يا ليالي السعد، وطاير الشوق غرّد، ونفهم من كلمة (ليالي) أن الشكوى مفاجئة كما أن الليالي مليئة بالمفاجآت، وكلمة السعد نفهم منها أن الشاعر ينتظر يوماً أجمل مما مر.

سحابة صيف

ـ من أجل ذلك فإنه يتمنى أن يكون ما حصل سحابة صيف وتنقشع قريباً، فصار يُمنّي نفسه بليالي السعد القادمة، وهو في قمة تفاؤله بالغد القادم، ومن حق سموّه بل من حقنا جميعاً أن نتفاءل، ولعمري ماذا جنينا من التشاؤم والتعبس، والله قادر على أن يبدل أسوأ الأحوال إلى أحسن الأحوال في لحظة، ورحم الله من قال:

دع المقادير تجري في أعنتها

ولا تبيتنّ إلا خالي البال

ما بين طرفة عين وانتباهتها

يغير الله من حال إلى حال

فكن مع الناس كالميزان معتدلاً

ولا تقولنّ ذا عمي وذا خالي

فالعمّ من انت مغمور بنعمته

والخال من أنت من أضراره خال

ـ نعم... ليس هناك أجمل من التفاؤل، وليس أعذب من كلمات صاحب السمو في هذه القطعة الأدبية الجميلة من القصيدة: يا ليالي السعد، طاير الشوق غرّد، والهوى الحلو كله، عند ظبي السليل، يتغنّى الشاعر بهذه الكلمات ويستعذب فيها المعاني السامية.

ـ وأعتقد أن الخلّ يحس بنفس الشعور في قرارة نفسه فهو تربى في بيت أدب رفيع، ويدرك أن الصديق لا ينتظر من صديقه إلا الشعور المتبادل المفعم بالحب والتقدير، وأن يمشي مع صديقه بقلبه وقالبه، فهو لا يتوقع من صديق كان لطيف المعشر أن يتحول إلى مواقف تجرح الإحساس.

مصارحة

ـ لذلك فإنّ شاعرنا الكبير الشيخ محمد بن راشد، بعد أن تعلق قلبه بهذا الخليل صار يصارحنا بما تفاجأ به وما لم يكن بحسبانه فيقول:

ظبي بطشه أسد

في بعاده تعمّـد

ذابحنّي بدلّه

وحش وجهه جميل

ما سليته أبد

ع غرامه معوّد

في فؤادي محلّه

بين صبح ومقيل

بالجمال إنفـرد

كنْ زينه مخلّد

في دلاله ودلّه

ما لمثله مثيل

ـ هكذا يتغزل الشاعر بجمال الخليل وكماله ودلاله، ويغرقنا كعادته في الغموض في أشعاره، فيستمر في ذكر أوصاف خلّه من غير أن يذكر اسمه، ومن غير أن يشعرنا بالمقصود لا من قريب ولا من بعيد.

ـ يصفه بالظبي البالغ في النعومة واللطافة، وفي الوقت نفسه يصفه بأنه أسد كاسر يخشى منه.

ـ وفي الوقت نفسه يعاتبه وهو على يقين أو يكاد يكون كذلك بأنه متعمّد في إحداث هذه الفجوة.

ـ لكن رغم ذلك كلّه، فالشاعر يرى أن ضرب الحبيب زبيب، ولا يمكن أن يُفسّر بالمعنى البعيد طالما المعنى القريب ممكن.

وكيف يسيء الظن بالخلّ وهو ساكن في سويداء فؤاده، ولا يكاد يستسيغ فكرة إبعاده عن ذهنه وقلبه.

مجمع المحاسن

ـ وبالمناسبة فإنه يأبى إلا أن يذكر خليله بسرد محاسنه وإيجابياته، فهو لا يزال يحتفظ بالكثير من الصفات التي تضفي عليه أبّهة الجلال والكمال، وفي بعض الأحايين يرى الشاعر صديقه بأنه الحسن كله أو مجمع المحاسن لولا أنه صدر منه اليوم هذه الهــِنَة الهيـّنة من الأشكال والألوان التي لا تناسب طبعه وفطرته، فليته بقي على فطرته فهو ذلك الرجل الذي يقول عنه شاعرنا الكبير:

فرد يسوى بلد

من أشوفـــــه آتبلد

مورد القلب لأجله

كوثر وسلسبيل

به دوى للرِّمد

ريقه في طرف مرود

الشفا لمن حصل له

كلّ علّه يزيل

ـ يرى الشاعر صديقه بأنه كان بإمكانه أن يبقى كبيراً، لأنه من بيت أصل ونسب وحسب، وهو لا يزال يراه كذلك، وقلبه ينبض بالحب العميق تجاهه، ولا يتغيّر ذلك بتغير الليل والنهار، وهو من كثرة تعلُّقه به وحبّه وولهه له يرى أن نظرة منه تكفي أن تشفي علل المحبين له، وأمّا أحاديثه فهي من غير شك بلسم للجروح والأسقام.

ـ ويبدو أن ما حصل من الصديق في هذه المرّة أثّر كثيراً في نفس الشاعر، لأنه لم يكن يتوقَّع أن يصدر من صديقه العزيز مثل هذا الذي كدّر الخاطر وغير تلك الصورة الجميلة المرسومة في خيال الشاعر عن ذلك الصديق العزيز، لذلك يقول وهو إذا قال وجب علينا جميعاً أن نكون أذناً صاغية لما يقول فهو يقول عن تجربة:

كنت أظنّه سند

لي عليه آتسنّد

وثرهْ ما يسدّ خلّه

بالمواصل بخيل

ناظري ما رقد

ولي بشوك موسّد

والمنام إستخلّه

ذاك ليله طويــــل

أحرسه م الحسد

مثل ها الزين يحسد

من يشوفه يجلّه

وصف زينه جليل

الثنايا برد

والشفايا توقد

وبالرموش المطلّه

كم صريع وقتيل

شكوى وعتاب

ـ عجبت من شاعرنا يشكو ويعاتب خليله من جهة، ومن جهة أخرى يحبه ويخاف عليه من الحساد، فهو كون أنه حسن المحيا جميل المنظر يخشى عليه وحق له ذلك، إذ كل ذي نعمة محسود.

ـ أجل... هو متأثِّر بما حصل من تباين المواقف وتصرّفات غير متوقعة من الخلّ لخلّه، فسموّه كصديق كان يرى صديقه كبيراً دائماً وهو كذلك.

ـ وكان الشيخ محمد بن راشد يعتمد عليه في وقت الجدّ وساعة الحزم، وليس ذلك بغريب فالأخ عون لأخيه ولا يبخل على أخيه أو صديقه لا بالمال ولا بالدفاع عنه بالمقال، هذا إذا كان فرداً عادياً فكيف لو كان صديقاً وأخاً دائم العهد للشيخ محمد بن راشد كهذا الصديق.

ـ يقول الشاعر: تفاجأت بما حصل وطار النوم من عيني، ولم أستطع أن أغمض عيني من شدة التفكير، ومن هول ما صدر من أخي وصديقي الذي لم أر منه إلا الخير في كل المواقف التي سبقت.

ـ على كل لا أقول في حقه إلا الخير، وأدعو الله أن يحفظه من مكايد الأعداء الذين يسعون في الإفساد بين المتحابّين، وإنني ربما أعذره فمثله محسود على ما أعطي من جلال المقام وجمال الهندام، ونحن محسودون أيضاً على تواصلنا معه وتواصله معنا.

تعابير صادقة

ـ وفي الأبيات الأخيرة نقرأ الكثير من الكلمات والأخيلة والمعاني والألفاظ التي لا يستخدمها إلا الصادق في تعبيراته، والدقيق في تصويراته والأمين في تبريراته، اقرأ معي قول سموه:

طالبنّه ورد

بالمعاتب وجدّد

جيت شافي لعَلّه

بالمواصل ينيل

مثل طلبة ولد

لو إنعطا شي عوّد

والطلب ما يملّه

لو عطوه الجزيل

ما وفا بالعهــــد

قال لي يا محمـد

لك أنا العمر

كلّه الموِدّ الخليل

عافني وإبتعد

ولعذابي تقصّـد

وأنا روحي فداً له

وما لحبّه بديل

ـ أقول لا أدري كيف أعبّر عن هذه الأبيات، أحسّ أن قلمي يعجز عن بيان الحقيقة، ودفاتري لا تتسع لذكر مجريات ما حصل، وما حصل بين الخلّ وخليله، أكبر من أن يكون لمثلي دور في توصيفه وتحليله.

ـ ذلك أن كلا الصديقين لهما علوّ المقام ووجوب الاحترام، وهما أعرف بحال بعض في حال الانفراد وفي وسط الزحام.

ـ فلا أظن أن أحد الصديقين يرضى بزعل الصديق الآخر، أو أن أحدهما يطيب له رقاد الليل بعد هذه الكدورة التي حصلت وسببت جرحاً عميقاً.

مودة وألفة

ـ وعلى افتراض أن أحدهما تنازل لصديقه من باب الأدب والحفاظ على الودّ، لكن مثل ذلك التنازل إذا لم يكن عن قناعة، فإن الخلّ الآخر يحتار في الأمر أكثر، إذ يشعر بتأنيب ضمير أكثر، في حين أنه يود أن تسود الألفة بينهما كما كانت في السابق، وأن يحفظ كل منهما مقام الآخر، مع العلم بأن الشيخ محمد بن راشد متمسك بصديقه الآن أكثر من ذي قبل.

ـ سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، إن العتاب دليل المحبة، والصديق لا يستغني عن صديقه، وما فرّقت المناسبات والأحوال بين الحبيبين، إلا لتجمع بينهما في مناسبات أفضل وأحوال أكثر انسجاماً، المهم أن نستمر في تفاؤلنا بليالي سعد قادمات ولا نقف عند أطلال ليالي سعد ماضيات، والشاعر يقول:

فالهوى أنت كله والأماني

فاملأ الكأس بالغرام وهات

سوف تلهو بنا الحياة وتسخر

فتعـال أحبك الآن أكثـر

عتابٌ رقيقٌ ينبعُ من قلبٍ مفطورٍ على حبّ الخير

 

Email