ابتهالات محمد بن راشد .. تجربة شعرية متميزة زاخرة بالمضامين الدينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«في شهر رمضان المبارك ترنو القلوب إلى خالقها، راجيةً عفوه وكرمه، وتتسامى النفوس، أملاً في نيل رضا الرحمن...»، بهذه الكلمات التي تجمع بين تدبر القلوب وتسامي النفوس الطيبة، قدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مجموعة ابتهالاته التي نظمها خلال شهر رمضان المبارك. وقد حملت هذه الابتهالات التي نشرت ضمن كتاب مضامين تتمحور حول التضرع إلى الله والتقرب منه – سبحانه – وسؤاله وطلب عفوه ومغفرته، وما إلى ذلك من الأمور التي تربط العبد بربه، وهي مضامين لا تخطئها عين القارئ من عنوان الكتاب، الذي يحمل كلمة «ابتهالات».. ناهيك عن عناوين القصائد - التي تدور في فلك العنوان الرئيس ودلالته الروحية والشعورية – وهي: «إليك إلهي»، و«وحقِّكَ»، و«شرابٌ راقَ لِي»، و«مُقَامِي»، و«تسابيح»، و«وقفت أمامَ بابك».

ومما يلفت انتباه القارئ أيضاً، أن هناك «وحدة عضوية» تربط بين كل قصائد هذه المجموعة الشعرية، التي تحمل دلالات المناجاة والتسبيح والحمد والاعتراف لله بالفضل والجود والعطاء، والوقوف بين يديه، طلباً للعفو والتوفيق، حيث يقول:

إليكَ إلهي إنَّني لعجولُ

                     وإنِّي لمولايَ الكريمِ سؤولُ

وقد جاءني عنه الحديثُ بأنه

                     جوادٌ غفورٌ جاء عنه رسول

إلى أن يصل - في الأخير - إلى غايته ومبتغاه الأسمى، وهو القبول من ربه:

وإني لا أدري بما اللهُ فاعلٌ

                   إذا بَانَ في آنِ الحسابِ ذهولُ

سوى أنَّني أرجو ندَاهُ وجُودَه

                   وأنْ يَشْمَل العبدَ الفقيرَ قبولُ

أبعاد الرؤية الشعرية

تطرق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في هذه القصائد إلى عدة محاور وأبعاد، سوف أتناول أبرزها، والتي تتمثل في ما يلي:

أولاً: الحب الإلهي

منزلة المحبة عظيمة، وعلى قدر حبّ العبد لربه وإخلاصه له، يكون حبّ الله له وتوفيقه إياه ومعونته وهدايته لما فيه الخير والصلاح له. وهو طريق طويل ورحلة شاقة، وقد تعرض صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لهذه المحبة، وأفرد لها مساحة كبيرة من هذه الابتهالات، حيث يقول:

كَلِفْتُ به وجداً وأتلف مهجتي

                    ودادٌ لمن نفسي إليه تؤولُ

إليك إلهي لا لغيرك مرجعي

                    وإني بما قد رابني لخجول

وفي قصيدة «مقامي» تطور الحب إلى مرحلة أسمى، حيث يقول:

غَرمت بذاته غرمي غراماً

                   وقد غرم الفؤاد من الغرامِ

أما في قصيدة «وقفت أمام بابك» فقد وصل الحب إلى مرحلة الحب الشديد حيث يقول:

أتيتك والهاً دَنِفاً مَشوقا

                   حبيبي أنتَ يا نعم الحبيبُ

وتعلمُ أنَّني بك مستجير

                  وشعري دون ذكركَ لا يطيبُ

وهكذا يستمر الوجد الذي لا ينقضي إلا بالوصول إلى الغاية والمنتهى، حيث يقول:

فوالله وجدي لا شفاً لرسيسه

                        إلى حين يدنيني إليه وصولُ

كَلِفْتُ به وجداً وأتلفَ مهجتي

                         ودادٌ لمن نفسي إليه تؤولُ

نهارِي نهارُ التالفين صبابة

                        ولَيلِي إذا عزَّ الرجاءُ يطولُ

 

ثانياً: التسبيح والتقديس

شغل موضوع تسبيح الله وتقديسه، حيزاً كبيراً في هذه المجموعة الشعرية، وليس أدلّ على ذلك من إطلاق اسم «تسابيح» على إحدى ابتهالاته، والتي يقول في مطلعها:

سبّحت باسمكَ المجيدِ السماء

                          وتسامت باسمك الأسماءُ

يا عظيماً ويا حَليماً وفَرداً

                         من عطاياكَ دامتِ الآلاءُ

سبَّحتْ باسمك الحميدِ البرايا

                         وتعالَى إلى عُلاك الدعاءُ

سبَّح الكونُ كلُّه لإلهٍ

                        واحدٍ واجب عليه الثناءُ

ثم يصير تسبيحُه هذا مناجاةً لربه - والمناجاة تكون سراً بين العبد وربه - حيث يقول في قصيدة «وقفت أمام بابك»، التي تعد مناجاة خالصة لله سبحانه وتعالى:

وقفتُ أمام بابك يا قريبُ

                       ومن يلجأ لبابك لا يخيبُ

ولَسْتُ بمحدثٍ أمراً غريباً

                     ولَسْتُ أنا على الباب الغريبُ

أتيتُكَ والهاً دَنِفاً مشوقا

                    حبيبي أنت يا نعم الحبيبُ

وحَسْبِي أنّ عفوَكَ بي محيطٌ

                    ومن آثار جودِكَ لي نصيبُ

إلى آخر هذا الابتهال الرائع الذي يعد نموذجاً جيداً في شعر المناجاة.

 

ثالثاً: البُعد الإسلامي

في خضم كل هذا الشعر الروحي الرقيق، لم يفُت صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أن يتحدث عن همومه كمسلم، يَغَارُ على الإسلام وعلى أمته وقومه، حيث يدعو الله أن ينقذ الإسلام والمسلمين من البدع والأهواء والأفكار الضالة، وأن يجنبهم الخروج عن الشرع القويم، كما يدعوهم إلى أن يتمسكوا بهدي المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الذي فيه صلاح العباد والبلاد، حيث يقول:

وفي هذا الزمانِ بَدَتْ أمورٌ

                          بها خرَجَ الأنامُ عن النِّطاقِ

إلهي أنقذِ الإسلامَ منها

                        فقدْ أمسى يُلاقي ما يلاقي

لجأتُ إليك يا ربي وإني

                        بهدي المصطفى أبداً لحاقي

ثم يدعو الله بصلاح حال المسلمين، وأن يظلوا متعاونين متحدين في ما بينهم، وألا يطيل مدة شقاقهم واختلافهم، حيث يقول إثر الأبيات السابقة:

فأصلحْ حالَنا وامْنُن بلطفٍ

                      وجنِّبْ أمتي طول الشقاقِ

كذلك يدعو سموه إلى إبراز القيم الإسلامية الإيجابية ويحثّ عليها، وذلك من خلال التفريق بين «التوكل» و«التواكل».. فالتوكّل يعني إرجاع الأمر لله سبحانه في جميع أمور الدنيا، لكن مع الأخذ بالأسباب والسعي والتفكير للوصول للنجاح، كأن تعمل وتكد كي تحصل على الرزق.

أما التواكل، فيعني عدم الأخذ بالأسباب أو السعي للحصول على الرزق، بحجة أن الله سوف يرزق، فالتواكل يتنافى مع قيم الإسلام، لما فيه من كسل وخمول واعتماد على الغير، كأن تدعو الله بالنجاح في الامتحان، دون أن تدرس أو تستذكر دروسك، حيث يقول في قصيدة «لك الحمد يا ربي»:

وما عملي إلا بتوحيد خالقي

                            كفاني إيماني به وكفَى الحمدُ

ومَنْ يَتَّكِلْ يلقَ التوكلَ عصمةً

                            ومَنْ يَتَوَاكلْ فاتَهُ الخيرُ والوعدُ

 

ظواهر فنية

برزت في هذه الابتهالات مجموعة من الظواهر الفنية، أهمها:

أولاً: أسلوب التكرار للتأكيد

التكرار سمة من السمات الأسلوبية التي شاعت في الشعر العربي، قديمه وحديثه، وتذهب المعاجم اللغوية، إلى أنّ التكرار من كرّر الشيء، تكريراً وتكراراً، بمعنى إعادته مرة بعد أخرى، بهدف الإفهام والتوكيد، وقد تجلى هذا الأسلوب في قصيدة «إليك إلهي»، حيث تكرر عنوان القصيدة في بيتين آخرين، حيث يقول:

إليك إلهي إنني لعجول

                       إليك إلهي لا لغيرك مرجعي

كذلك ورد في قصيدة «وحقك»، التي تكرر عنوانها 3 مرات، حيث يقول:

وحقِّك استحق لك السجود

وحقِّك ما لمُلْككَ مِن شَريكٍ

وحقِّك أنت غفار الخطايا

 

ثانياً: تجريد المحسوسات

اعتمد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في رؤيته الشعرية، على أسلوب تجريد المحسوسات من طبيعتها المادية، لتتحول إلى شيء آخر، حيث يقول عن الشراب:

شرابٌ راقَ لي مِن غيرٍ ساقٍ

                            لمترعةٍ تُدارُ من المآقي

عجيبٌ أنَّها رقَّتْ وراقتْ

                          مخبأةً من الحِقَبِ العِتاقِ

وأغلى سعرها ما بان منها

                          فهل من سالف منها وباقي

وإنّي عند ذكرِ الله أشدو

                         بها لأخفَّ من برحِ اشتياقي

ولا يعني الشراب هنا الأمور الحسية المرتبطة به، وإنما صار شراباً مصدره المآقي وكأسه العيون، ويكون للتخفيف من ألم الشوق عند ذكر الله تعالى.

 

أسلوب الجناس

الجناس يعني أن يتشابه اللفظان في النطق، ويختلفا في المعنى، وقد ورد في قصيدة «مقامي»، حيث يقول:

مُقامي عند من عرفوا مَقَامي

                          قياماً حيث هم شهدوا قيامي

وتسليمي سلاماً من سلامٍ

                           سلام الله منه بدا سلامي

كلمة «مُقامي» بضم الميم تعني إقامتي، أما «مَقامي» بفتح الميم فتعني قدري ومنزلتي، فالكلمتان بينهما جناس.

وكلمة «سلاماً» قد تعني عبارة «السلام عليكم» أو المصافحة باليد عن اللقاء أو الذهاب، و«سلام» قد تعني أمان وطمأنينة، فالكلمتان بينهما جناس أيضاً..

 

المعجم الشعري

المعجم الشعري لأي شاعر مرتبط بتكوينه الثقافي وبيئته الجغرافية، ويتشكل ضمن هذين الشيئين، لكن الأديب البارع هو الذي يصوغ منظومة من مفردات تميز بصمته الإبداعية في أي نص أدبي يكتبه، وبهذا يكون له علامة مميزة، يبدع من خلالها عوالمه وصوره ورؤاه، وبهذا يختلف الشعراء ويشكلون خصوصيتهم وحساسيتهم.

وقد تشكل معجم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الشعري في هذه الابتهالات، من عدة حقول دلالية، يتضمن كل حقل منها مجموعة من المفردات، والملاحظ أن كل هذه المفردات مرتبط بالدين الإسلامي ارتباطاً كبيراً، وصاغ منها رؤيته الشعرية في هذه المجموعة من الابتهالات.

وسوف أتناول أبرز هذه الحقول، وما يحوي كل منها من مفردات شكلت في النهاية جميعاً المعجم الشعري في هذه الابتهالات.

أولاً: حقل الصلاة، وهو يتضمن مفردات: السجود، والقيام، والسلام، والتسبيح، والتقديس، والذكر.

ثانياً: محور الذات الإلهية وأسماء الله الحسنى بما فيها: الملك، والغفار، والعفو، والصمد، والله، والمغيث، والمجيد، والعظيم، والحليم، والفرد، والصمد، والغافر، والرحمن، والخالق، والسميع.

ثالثاً: محور المصطلحات الدينية والروحية، ويتضمن مفردات: توحيد، وإيمان، والورود، اللطف، المنة، والمقام، والغرام، والفضل والسعادة، والحمد.

Email