قفال الغوص .. أهازيج على إيقاع الموج وبريق اللؤلؤ

قفال الغوص .. أهازيج على إيقاع الموج وبريق اللؤلؤ

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كان البحر هو الاتجاه الأول لأهل الإمارات حين يبحثون عن موارد الرزق لذا اختلفت مهنهم البحرية منهم من كان بحارا ومنهم من كان سفارا يجوبون موانئ الدول وتجد من كان طواشا (يبيع منتوجات الغوص من اللؤلؤ الثمين). ويظل زمن الغوص الذي امتد لمئات السنين شاهدا على قسوة الحياة في الخليج قبل النفط لكن هذه المهنة انتهت نهاية دراماتيكية غير متوقعة في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين.

ونحن اليوم مع سيرة أحد ربان البحر الذي نشأ في بيئة بحرية خالصة كل ما فيها له علاقة بالبحر.. وهو علي بن مطر الشامسي من رجال البحر ومن عائلة رجالها كانوا بحارة .. فوالده نوخذة غوص أما هو فقد مارس العمل في البحر منذ نعومة أظفاره والآن لديه كنز من الذكريات الجميلة يكشف من خلالها عن جوانب مهمة من ثقافة أهل البحر والساحل وتاريخ الغوص في دولة الإمارات.

ولد الشامسي وبدأ حياته في منطقة الحمرية بإمارة الشارقة ودرس فيها أيام الصبا لمدة سنتين عند المرحوم سالم المطوع وعندما بلغ أربعة عشر عاما أصبح رفيقا دائما للبحر ورافق رجالات الغوص وعمل كغيص (غواص) لمدة موسمين بعدها، في سن السادسة عشرة اشتد عوده وأصبح مؤهلا لتحمل مسؤولية المحمل كنوخذة ومد الغوص عشرة مواسم.

استقبلنا النوخذة علي بن مطر الشامسي في منزله الكائن بإمارة عجمان وبدأ يسترجع ذكريات يفوح منها عبق الماضي تمتزج بالواقعية لتؤسس لحياة غابرة تستدعي شخوصها وأمكنتها عوالم الزمان والمكان. ووصف سريعا رحلة الغوص وما يصاحبها من عمل شاق ومضن في جو ملؤه الغربة والفراق والشوق والحنين وسط غدر مياه البحر الزرقاء. وتطرق لمراحل رحلة الغوص بدءا من الدشة ويقصد بها بدء موسم رحلة الغوص الرسمي أو ما يسمى «العود» وصولا إلى القفال ويقصد بالقفال عودة السفن من رحلة الغوص وانتهاء الموسم.

ويسترجع محطات حياته الهامة قائلا: كانت أيامنا تمر بين بيوت الطين والسفر والغوص. نصارع أمواج البحر مستميتين، سطرنا صفحات مشرقة في الأعماق فوق هيرات الإمارات عكس جيل اليوم الذين يعيشون رغد الحياة والثراء دون تعب وعناء ومشقة. ونوه إلى أن موسم الغوص كان يبدأ عادة عندما تميل مياه الخليج إلى الدفء في بداية فصل الصيف ويستمر لمدة تزيد على أربعة أشهر تقريبا حتى دخول موسم الشتاء من نهاية مايو وحتى أواخر سبتمبر إلا ان بعض السفن تعود مرة أخرى أو مرتين للتزود ببعض الحاجيات التي يحتاج إليها الغاصة.

وقال الشامسي «آنذاك كان الترتيب لرحلات الغوص يستغرق شهرا كاملا يبدأ بإعداد المحامل (السفن) وتزويدها بأدوات الغوص من حبال وأدوات لازمة ومجاديف وطعام يكفي العاملين على ظهرها وصولا إلى إعلان النوخذة (وهو قائد الرحلة) ساعة الصفر للانطلاق .. بعدها تبدأ مراسم توديع البحارة تليها عملية الدشة حتى الوصول إلى الهيرات (جمع هير وهو مكان تجمع المحار في قاع البحر) ويبدأ الغاصة في عملية الغوص تحت أشعة الشمس الحارقة حتى ساعات متأخرة من اليوم ليحصلوا في النهاية على المحار من قوع الهيرات ليكون موسم القفال عيدا حقيقيا لهم يعودون بعده إلى الديار بعد رحلة لا تخلو من مكاسب وخسائر، مكاسب تتمثل بعدد وافر من اللآلئ الثمينة تستقبل بإطلاق المدافع وخسائر تترجم بدموع تنهمر على زوج أو أب أو أخ خرج مع البحارة ولم يعد».

وأضاف «مررت سريعا على مراحل عملية الغوص لكني سأحدثكم تفصيلا عن القفال لأن هذا هو وقت القفال ومن المناسب الحديث عنه الآن، ففي هذا الوقت من كل عام كنا نخوض آخر مرحلة من مراحل الغوص وهي القفال ولابد وأن يطوف بذاكرتنا ونحن في مجالسنا مع رجال الغوص القفال ويطيب لنا الحديث عن ذكريات القفال في هذا الوقت من كل عام».

وأشار إلى ان القفال يقصد به عودة سفن الغوص من رحلة الغوص وانتهاء موسم الغوص وهي تسمية قديمة ومعروفة في الإمارات ودول مجلس التعاون وغالبا ما يقيم الأهالي احتفالات شعبية على الشاطئ عند عودة السفن بعد غياب طويل يزيد على ثلاثة أو أربعة أشهر تقريبا وقد يمتد لفترة أطول.

وأوضح أن القفال هو انتهاء موسم الغوص وعودة سفنه من رحلتها التي امتدت إلى أربعة أشهر ونيف وتطلق كلمة القفال على موعد نهاية موسم الغوص ومعناها العودة، فالقفال من قفل من السفر أي رجع وكانوا يطلقونها على العائدين من هيرات اللؤلؤ في ذلك الموعد المحدد.

ونوه الشامسي إلى أنه لا تطلق كلمة قفال على أي سفينة عائدة من رحلة الغوص إذ يطلق السردال (أمير الغوص) إشارة العودة برفع النشرة (أي العلم الخاص بالقفال) ثم يطلق طلقتين من مدفعه الخاص الموجود على سفينته لتبدأ على اثر ذلك السفن برفع مراسيها على أصوات النهامين للتوجه نحو البلاد في موكب بهيج يتغنى فيه الغواصون بقصائد السعادة والفرح على عكس أناشيد المد (بداية رحلة الغوص أو الدشة) الحزينة لحظة الإبحار بحثا عن اللؤلؤ وما تحمله من ألم وفراق وشوق للأهل والأحبة.

سفن ورحلات

وقال «سفن (الملازيم) تلتزم بسفينة السردال في القفال .. أما الخلويون (يطلق عليهم البعض لفظ اليبالة في اللهجة المحلية) أي السفن الخاصة فلا تلتزم به انما تعود قبل او بعد الملازيم ويحتشد الأهالي على الساحل مرحبين بالقادمين من رحلة الغوص المضنية المشحونة بمشاعر الأسى والفراق قبل مشاعر الفرح بالقماش (اللؤلؤ) تلك التي لا تخلو من الأسى لحال بعض الغاصة اما لمرضهم واما لالتهام اليريور (سمك القرش) لهم واما لبتر عضو من أعضاء أحدهم وهذا ما ينقله الغاصة إلى أهالي المفقودين بكل حسرة وحزن وفي اليوم التالي تسحب السفن إلى اليابسة حيث تأخذ كل سفينة مكانها المخصص لها في انتظار حلول الموسم المقبل».

شروط القفال

وشدد الشامسي على أن هناك شروطا محددة للقفال وهي ان تكون عودة السفن في موعد زمني معين وهي الأيام الأولى من شهر أكتوبر عندما يصبح الطقس متقلبا والمياه باردة فيشق الغوص على البحارة فاذا عادت السفن في أيام أخرى وبدون تلك الشروط فلا تكون قفالا لكن يطلقون عليها كلمة (الدخلة) أي دخلوا البلاد خاصة في الفترات التي يتم فيها التزود بالمؤن او إنزال مريض او ميت.

وأضاف «يجب أن تكون عودة السفن جماعية ويتم تحديد موعد عودتها باتفاق السلطات الحاكمة مع سردال الغوص أي أمير الغوص وهو الشخص المسؤول عن جميع السفن التابعة لمدينة او دولة واحدة والتي تخرج لموسم الغوص ويتم الإعلان عن هذا الموعد رسميا وعندما يحين هذا الموعد يأمر السردال بإطلاق مدفع إيذانا بانتهاء موسم الغوص والعودة إلى الوطن فتتجمع السفن المنتشرة في هيرات الخليج وتبدأ التوجه نحو الوطن مرفوعة الأعلام وتبدأ الحياة تدب في البلاد ويعمها الفرح فالقفال بمثابة العيد عند الجميع».

ويواصل الشامسي استعادة ذكريات مضت واصفا مشاهد الأيام والليالي التي قضاها في عرض البحر وعلى ظهر محمل مكتظ بالرجال يعيش البحارة على وجبة واحدة من العيش (الأرز) وبعض حبات التمر لفترة أربعة أشهر يقضي الغاصة معظمها تحت الماء وفي أعماق البحر بحثا عن اللؤلؤ في أماكن ليست بعيدة عن سمك القرش والدول (الدول كائن بحري هلامي ويطلق عليه في كثير من الدول العربية قنديل البحر) في مهمة شاقة ورتيبة تتم على مراحل مختلفة تتطلب الغوص طيلة النهار من دون اسطوانات الأوكسجين التي يستعين بها الغواصون الآن تتخللها فترات قصيرة جدا من الصعود إلى سطح المحمل للتنفس.

وأضاف الشامسي «اعتاد البحارة على ذكر الله من خلال بعض الأغاني والمواويل التي تحفزهم على تحمل المشقات أثناء عملهم وتجمع حصيلة المحار في المكان المخصص له على ظهر المحمل ويخلط مع بعضه البعض وعند العثور على حبات لؤلؤ يكون ملكا عاما لطاقم المحمل»، لافتا إلى أن روح المحبة والأسرة الواحدة التي كانت تجمع كل من على ظهر المحمل كافية من أجل استمرار رحلات الغوص الشاقة والتغلب على الظروف الاجتماعية والنفسية.

في الهيرات البعيدة

ويرسم الشامسي بكلماته تلك الأيام في لوحة رائعة مختزلا الزمان والمكان وقال «هكذا نقضي أيامنا وليالينا داخل البحر والتي على الرغم من صعوبتها ووحشتها لا تخلو من الأمسيات الرائعة وإذا كان نهارنا للعمل فاننا أحببنا ليلنا ونجومه واستمتعنا بصمتها عندما كان كل شيء صامتا حولنا ورسم البحارة بجوار أكوام المحار وفوق ألواح المحمل الرطبة الغد الآتي عندما ودعنا الأمس الماضي وتمضي الأيام بما فيها من أهوال وأتراح وأفراح.

أما المعاناة فلم تقتصر على الغوص في الأعماق خاصة في نهاية الموسم حيث تبدأ برودة المياه ولا على فلق المحار ورائحتها الحادة بل كانت هناك معاناة نفسية واجتماعية وعاطفية نتيجة الإحساس بالغربة وفراق الأهل والحي تصل ذروتها عندما تمر على البحارة مناسبات سعيدة وهم في عرض البحر فيزداد شوقهم وحنينهم ويظل وضعهم على هذا المنوال لحين اقتراب نهاية موسم الغوص فتبدأ درجة الحرارة بالانخفاض فيردد البحارة: إلى وصلت السابعة البرد وايد.. يقفل الغواص من قاص البعايد».

يعيش النوخذة علي بن مطر الشامسي أجواء نهاية موسم الغوص ويتذكر الأفراح والسعادة التي يطلق لها البحارة العنان مع اقتراب العودة للبر ولقاء الأهل.وفي هذا الصدد يستذكر الماضي قائلا «وسط هذه الغربة والمياه الزرقاء تحيطنا من كل جانب والرياح تهب علينا من كل صوب فترتفع معها الأمواج تارة فنخاف البحر وغدره وتارة أخرى تهدأ فيتسلل الاطمئنان لقلوبنا لا يعكر صفوها إلا أجواء العمل الشاق».

وأكد أنه اذا حدث وتأخرت السفن عن موعدها فان ذلك يكون مصدر قلق وتوقعات غير سارة فيجتمع الأهالي على الساحل في المرافئ يرابطون فيها حتى عودة السفن وتقوم النساء ببعض الطقوس التي عادة ما تصاحب هذه الظروف وأكثر تلك الطقوس شيوعا أغان معروفة والتي تحمل كلماتها التهديد حينا والوعيد تارة أخرى والرجاء للبحر بأن يسهل عودة السفن برجالها سالمين. لافتا إلى أنه يصاحب الأغنية بعض الممارسات والطقوس التي تعبر عن تلك الأحاسيس والمشاعر.

طقوس مرحة

وأشار إلى ان إقامة الطقوس تتخذ طابعا مرحا يلطف من الجو العام المشحون بالقلق نتيجة الخوف على الأهل بالإضافة إلى أن التأخير يساهم في زيادة الأحوال المعيشية سوءا ويتبين من هذه الطقوس السائدة لديهن اعتقادهن بقدرة البحر على سماع كلامهن وإطاعة أوامرهن كما يتبين منها انه رغم خوفهن ورهبتهن من البحر إلا انه قريب إليهن.

وقال الشامسي «لا تقتصر ممارسة طقوس القفال على النساء فقط بل ان الغاصة أيضا يقومون بممارسة طقوس شبيهة وهم في عرض البحر فحين يقترب موعد القفال يمسك البحارة بسمكة (البزيمي) ويقومون بتكحيل عينيها ثم يطلقونها وسط أمواج البحر اعتقادا منهم بأن ذلك سيؤدي إلى هبوب الرياح ما يسهل عودتهم نحو الديار».

وأشار إلى انه من الطقوس والمعتقدات الأخرى السائدة لدى الغاصة في عرض البحر ان رؤية طائر الهدهد تعني حلول موعد القفال لذا أصبحت عادة لديهم عند رؤية الهدهد في عرض البحر يصيحون على النوخذة ليقفل. فيرد عليهم: ناس على الهدهد يصيحون.. يبغون من الهدهد مثابة يتحسبون الغوص فيه هون.. الغوص مدة من حسابه.

وأوضح الشامسي أن القفال في حد ذاته يعتبر بالنسبة للنساء والسكان جميعا فرحة بعودة الأهل سالمين لذا نجد النساء يقمن بترتيبات متعددة استعدادا لهذا اليوم الموعود فيقمن بتنظيف المنازل وترتيبها وخياطة الملابس للزوج والأسرة ولأنفسهن وإعداد مواد الزينة المختلفة فيبدأن بطحن الحناء والرشوش (نوع من انواع العطور) ودق السدر وشراء المشموم (نبات الريحان) إلى ان يعلمن بوصول السفن فتبدأ النساء بالتزين ولبس الجديد والحلي ودهن شعورهن بالرشوش وتعطيرها ومن ثم تعجيفها (تصفيفها) وتعليق المشموم على ضفائرهن. مشيرا إلى أنه بعد ان تنتهي النساء من استعداداتهن يجلسن على السيف (ساحل البحر) ينتظرن السنيار (وهو قدوم السفن بشكل جماعي واحدة وراء الأخرى).

وأضاف «تصل المحامل البر وهي ترفع الأشرعة ثم يبدأ الغاصة بإنزالها من الدقل وسط جو مفعم بالفرحة والسرور.. مرددين: يا دارنا عقب الهجر يناك عانيين». وأشار الى انه «بعد انتهاء رحلة الغوص ووصولنا السيف يستقبلنا الجميع بدموع الفرح والأهازيج لأن يوم القفال هو يوم الفرحة بالعودة من رحلة بحرية صعبة ننساها بمجرد استقبالنا من قبل الأهل والأحباب وتكون سعادتهم وسعادتنا أكبر ونحن نحمل حصيلة الشقاء والتعب من لآلئ ثمينة».

اليداف... رفع السفن

وقال الشامسي «بعد الوصول وانتهاء مراسيم الاستقبال تجري عملية اليداف (وهي رفع السفن من البحر) ووضعها على السيف بغرض صيانتها وتجديدها للموسم التالي وأثناء عملية رفعها يردد أحد الغاصة القول (هيه يا الله.. هيه يا الله.. ويرد عليه الآخرون : هيليه.. هيليه)».

(وام)

Email