يوارى الثرى بعد صلاة العصر اليوم جثمان نور علي راشد، عميد مصوري الإمارات في مقبرة القوز في دبي، الذي رحل أول من أمس عن عمر ناهز (81) عاماً ، تاركاً كنزاً يقدر بـ 3 ملايين صورة توثق تاريخ الدولة، والأسر الحاكمة والشعب، إضافة إلى الاحتفالات والمناسبات الخاصة.
استهوت الراحل نور علي راشد، عدسة الكاميرا أكثر من بريق الذهب، فعاش يرى العالم من خلالها يسجل ويوثق مشاهد ولحظات مع أشعة الشمس أو ومضات الفلاش، نهاراً وليلاً، وذلك دون كلل أو ملل. فكان يقصد جميع المناسبات من أجل ألا تفوته لقطة صورة قد تملأ فراغاً في التاريخ. وكان يمر التاريخ بالنسبة له مثل ومضة مع كل ضغطة زر يجريها بيده الفتية قبل نحو ستين عاماً.
لم يجن الراحل نور من التصوير ثروة مالية، لكنه خلف للدولة والتاريخ والأجيال، تركة لا تقدر بثمن، قوامها وعنوانها مخزون صور تحكي قصة حضارة ونهضة الإمارات، ومنجزات قادتها.
لم يكن يتصور نور، عندما قدم إلى دبي في عام 1958، أن قلبه سينبض مع الكاميرات وتطورها عبر هذه الأعوام، فهو لم يحقق آنذاك، رغبة والده في الحصول على وظيفة مرموقة، لأن طبيعته الفنية كانت تغلبه، فترسم له خطوات ضوئية على طريق الصورة الفوتوغرافية، وبذا لم يجاره أحد من المصورين، حيث إن المصور النابغ لا يمتلك فقط الكاميرا المتطورة ومعداتها، بل إن ركيزة موهبته تتمثل بتلك اللمسات الفنية الخاصة التي يضفيها على الصورة الملتقطة: الرؤية الفنية الشخصية. هذا هو فعليا أسلوب حياة المصور الفوتوغرافي.
فكان يمارس كسر الحواجز والجمود مطعماً ذلك بالتشويق والروح المرحة، والمراوغة الفنية في تهيئة الشخصيات التي يصورها. ويفهم على الفور ما تريده منه. كان يتكلم معهم بلغة الكاميرا حيث لا يُسمح بالكلام في المناسبات الرسمية التي تتطلب الإصغاء، بل والصمت.
لكن كاميرته لم تكن تصمت، بل تصغي برمشة العين، ولحظة اللقطة، من أجل أن يقبض على اللحظة قبل أن تهرب في كواليس الزمن وتصبح من الماضي. كان هو الحاضر، دائماً في قلب النور وروح العدسة.
إصراره على التصوير جعل منه رجل كل اللحظات بلا منازع. واستمراريته في التصوير الفوتوغرافي جعلته يصل إلى كنزه المنشود: توثيق حياة أصحاب السمو حكام الإمارات، وشعبها، في آن واحد. كان يتحفز دوماً لالتقاط صور فريدة معبرة في الوقت المناسب، ويخرج من بين الحشد.
ويفسح له الطريق لتوجيه عدسته في اللحظة المناسبة، كان يبرز من بين جميع المصورين، بقامته القصيرة، وكأنه يحمل علماً على رأس كاميرته. لم يكن يخطر بباله أن هذه الهواية ستتحول بمرور الزمن إلى مهنته، بل مهنته الوحيدة، بعد أن نسي بريق الذهب، وصفقاته. كان يعيش حالة من الشغف مع كاميرته أو مع كنزه من الصور. وحتى الكرسي المتحرك، الذي أراح جسده أخيراً، قبل الرحيل، لم يمنعه من مداعبة كاميرته والتقاط صوره.
منزله يصلح لأن يكون داراً لأرشيف الصور الفوتوغرافية بلا منازع، فلا توجد مناسبة أو احتفالية أو شخصية لم تمتد إليها عدسة الراحل نور علي راشد. فهو بشكل أو بآخر، يسيطر على الزمن عبر مرآته السحرية، الكاميرا. يحتفظ بالقديم من الكاميرات، ويقتني الجديد منها. لا يفرط بها، بل يحتفظ بها في خزائن بيته، لا يستطيع التخلي عنها بكل بساطة. ولم يبخل بها لا على الكتب أو على الصحف أو المجلات.
كانت أول كاميرا يقتنيها نور علي راشد هدية قدمها إليه أخوه حين عودته من مدرسته الداخلية، فكانت تلك الومضة التي أنارت له الطريق نحو عالم التصوير الضوئي. وكانت المدرسة نافذته للتعرف إلى هذه الآلة السحرية: الكاميرا. ومنذ أن تعلم التصوير لم تفارقه الكاميرا، حتى كان يصور للناس مجاناً. وبدأ عمله بنشر صوره في مجلة «فيشن» في نهاية الأربعينات.
وكثيراً ما كان يصرف من ماله الخاص من اجل التصوير وسط ازدراء والده، رجل الأعمال، لهذه المهنة. وفي عام 1958، دخل نور علي راشد حلبة مشهد التصوير عندما تمكن من تسجيل اللحظات الأولى لتولي المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم مقاليد حكم إمارة دبي. ونالت الصور إعجاب الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، حين قدمها له نور علي راشد.
لم يكن هناك أي حاجز أمام عدسته أبداً، فكانت السجادة الحمراء تُفرش أمام كاميرته. وكان جريئاً في التقاط الصور للزعماء والقادة لأنه مؤمن بأنه يؤدي رسالة في تسجيل الوقائع.
لقاء مع ابنه ألطاف نور علي
ترك الراحل عائلة مكونة من 6 أولاد وزوجة. يعمل ابنه ألطاف، 51 عاماً، في تجارة الديكور، الذي يأتي بعد الابن البكر للراحل، و كان لصيقاً به، يرافقه في تجواله وفي حضور المناسبات الاحتفالية العامة أو لتصوير الشيوخ.
كانت الغصة تملأ حديثه، وهو يجيبني على الهاتف: «أنت تعلم أن فقدان أب خسارة جسيمة للعائلة، فقد كان العمود الفقري لنا، يغمرنا بحضوره ومرحه و«مشاغباته» اللطيفة.
هل كان مريضاً في أواخر أيامه؟
أبداً، لكنه كان متعبا قليلاً بسبب الشيخوخة، ولم يعد يمشي إلا بمساعدة الكرسي المتحرك، ولكن صحته العامة كانت جيدة، وخاصة ذهنه كان صافياً، وذاكرته نشطة. وفي يوم الاثنين الماضي، ذهبنا لتصوير سمو الشيخ نهيان بن مبارك في أبوظبي، في مجلسه الرمضاني. وعندما رجعنا في التاسعة، طلب مني أن آخذه لزيارة سعيد النابودة، وكذلك الفريق ضاحي خلفان، ولكن الوقت لم يسعفنا بزيارته لأن الوقت قد تأخر.
ما هي ذكرياتك عنه؟
كنت على صلة وثيقة به، ولا زلت مصدوماً بفقدانه. كنت ألتقية باستمرار، ونلعب الورق «الكارت».
ما هي أعز ذكرى لدى الراحل، خلدها في بيته؟
علق على جدار مجلسه صورة يعتز بها كثيراً، وهي اليوم الأول الذي ولد فيه الاتحاد بين إمارات الدولة.
منذ متى ووالدك شغوف بالتصوير؟
منذ فتحنا أعيننا على الحياة رأيناه يداعب الكاميرات. فقد ترك تجارة الذهب من أجل الكاميرا.
كيف استطاع والدك، يرحمه الله، أن يعيل عائلة كبيرة من عمل التصوير؟
ولهذا نحن نسكن في شقة بالإيجار. والدي لم يكن يطلب شيئاً على الرغم من علاقته بالشيوخ. وعندما يسألونه: ماذا تريد؟ كان يجيبهم: سلامتكم. كانوا يحبونه ويحترمونه. وهو أحياناً يرفض بيع الصور لأنه يعتز بكل صورة يلتقطها. وكان كل هدفه هو خدمة الوطن .
وهذا الاحترام رأيته بأم عينيّ. ففي احتفالية يوم الإعلام في بداية شهر رمضان، كنا في زيارة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وما إن رآه سموه، قال له: لا تتحرك نور. وقدم سموه لكي يحييه ويغمره بعطفه الأبوي.
قالوا عنه
عدسته .. تاريخ
يتميز نور علي راشد، يرحمه الله، بروحه المرحة وذكائه وموهبته. وهذه العناصر الثلاثة قربّته من زملائه المصورين والناس. وكانت له القدرة والإمكانية لأن يصل إلى أي مكان لا يصله أي مصور آخر. وكانت صلته بأصحاب السمو الشيوخ قوية لدرجة كأنه فرد منهم. وكان يتمتع بجرأة كبيرة.
فقد حضرت ذات مرة مشهداً، كنا نقوم بتصوير المغفور له بإذن الله الشيخ زايد في عام 1980، فمنعه أفراد الأمن من ذلك، وجروه إلى الوراء. فانتبه الشيخ زايد لذلك المشهد، وسارع بأمر أفراد الأمن بفسح المجال لنور علي راشد، وعدم التعرض له في حال من الأحوال.
وقال لهم المغفور له الشيخ زايد:«لا تقفوا في طريقه». وكان مرحاً للغاية، وفي بعض الأحيان، عندما تنتهي الأفلام في الكاميرات القديمة، فهو يستمر في التصوير كما لو كانت كاميرته معبأة بالفيلم. وكان بعض الشيوخ يعرفون مقالبه، فيفتشون الكاميرا، ليتأكدوا من وجود الفيلم فيها، أو يرمونها على الأرض، فكان يقول:«إن شاء الله تنكسر الكاميرا».. حتى يعوضوه بواحدة جديدة.
كانت له مكانة كبيرة بين المصورين. وعادة ما كان يدعوهم إلى مائدة العشاء، ويجلب لهم الهدايا من بعض الشركات. كان على الدوام، يقف في المقدمة، على الرغم من حركته البطيئة. كان موثقاً عظيماً للأحداث التي مرت بالإمارات، فكان لا يعرف سوى الكاميرا والفلاش.. ويقدم صوراً تقليدية، فعمله كلاسيكي.
وكانت دور النشر تبادر إلى نشر صوره في كتب لأنها متأكدة من استرداد تكاليفها وتحقيق الأرباح. فهو قادر على تصريفها أو بيعها بكل سهولة. أقدر هذا المصور الذي قام بعمل توثيقي وخلد في عدسته صوراً أصبحت جزءاً من التاريخ».
الأب الروحي للمصورين
«تعرفت عليه أول ما وصلت إلى هذا البلد العزيز، وعملت في صحيفة «البيان»؛ أي في عام 1982. كان أيامها في أوج حيويته، وهو من النوع الاجتماعي، استطاع أن يبني علاقات قوية مع أعلى المستويات في الدولة الإماراتية، وحتى مع الرؤساء والملوك العرب.
وقد جاء المرحوم إلى البلد عندما لم يكن فيه سوى مصور واحد. يسمونه«كابتن»، لديه محل باسم «كابتن ستور»، وهو مصور قديم، وربما أقدم مصور في الإمارات. كان المصور آنذاك مثل البروفيسور. وعلى الرغم من فارق السن بيننا كان يمازحنا ويعتبرنا مثل أصدقائه بروحه الطيبة. كان مثل الأب الروحي للمصورين. فقد عاصر البلد في الماضي والحاضر
ويعتبر مرجعية للبلد وتراثه.
وكان يقدم العون للمصورين إذا ما واجه أية مشكلة، سواء مع أفراد الأمن أو موظفي المراسم. وقد ربى أولاده تربية جيدة لكي يصلوا إلى مراكز مرموقة. كما كان يصاحب أحياناً أولاده معه أثناء التصوير. وأتذكر ذات مرة، كان السلطان قابوس في جولة في الإمارات. وقد ذهبنا إلى الفجيرة لتغطية تلك الجولات.فعندما رآه السلطان قابوس، نادى عليه ودعاه إلى الغداء».
يستحق كل الألقاب
«أقول على الدوام، إن ما يميّز نور علي راشد في العالم، هو سيطرته على الموضوع، وإمكانيته في تحريك الموضوع حسب ما يراه هو.
والمعروف أنه في الصورة الرسمية لا يمكن للمصور العادي أن يحركهم لكن نور علي راشد، وبحكم علاقاته الإنسانية، يشّكل الموضوع حسب ما يراه. وهذه ميزة نادرة إن لم تكن مستحيلة وهي لا تتاح لأي مصور. فقد سجل للإمارات تاريخاً وسجلاً وثائقياً لم يقم به حتى الرحالة الأجانب، لأنه أكثر دقة منهم.
واستطاع أن يجمع أن يجمع المصورين في بوتقة واحدة ليكونوا أكثر التصاقاً بالمسؤولين، ويذلل لهم كل العقبات سواء مع أفراد الأمن أو المراسم. كما أصبح المصورون بفضله يُكرمون. ولو أعطيناه كل الألقاب لما وفينا حقه.
على أية حال، إنني لم أصادف إنساناً مثل نور في حياتي».
المصور الذي عاصر نهضة الإمارات
«تعرفت إلى المصور المرحوم نور علي راشد منذ 26 عاماً. كان كالأب بالنسبة لنا، نتعلم منه هذا الفن، وقد كان جريئاً سواء في تصويره أو في تعامله مع الناس.
وتميز بأسلوب ونكهة خاصتين به في مجال التصوير. كان المغفور له الشيخ زايد يمزح معه، ويأخذ منه كاميرته. ولعل الحظ حالفه لأنه عاصر نهضة الإمارات، في الوقت الذي لم تتوفر فيه تكنولوجيا التصوير
رأيته بكاميرته القديمة «الديسك» أثناء ما كانوا يطلقون على المصور في الإمارات «عكاش».
سيرة
ـ ولد نور علي راشد في ديسمبر 1929 في إقليم جوادر الذي كان تابعاً لساحل سلطنة عمان آنذاك، وهو دولة باكستان في الوقت الحاضر.
ـ في عام 1958 أرسله والده إلى دبي كعقاب على هوسه بالتصوير وعلى أمل أن تقوم البيئة الجديدة في دبي، بإلهام نور علي راشد نحو مهنة مرموقة، كما كان يطمح والده.
ـ أصدر عدة كتب مصورة، منها:« الشيخ زايد ذكريات وإنجازات 1918 - 2004 »، «الشيخ خليفة ذكريات وإنجازات»، «أبوظبي ..حياة وأزمان»، «الشيخ مكتوم ..ذكريات وإنجازات 1943 - 2006».
ـ أصبح نور المصور الخاص للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، ومن ثم المصور الشخصي للمغفور له الشيخ زايد.
جمعية الصحافيين تنعي الفقيد
نعت جمعية الصحافيين ببالغ الحزن والأسى الزميل نور علي راشد، عميد مصوري الإمارات، الذي وافته المنية مساء أول من أمس.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
دبي- شاكر نوري