أي صفقة بين الأب والأم حول نفقة الأبناء بعد الانفصال كثيرها أو قليلها أمر مشروع طالما كان ذلك بالتراضي أو بحكم ظروف الأب، لكن أن تكون الصفقة مساومة الزوج طليقته على عدم دفع النفقة لها مقابل تنازله عن الأولاد تصبح ظالمة.
وبالرغم من أن علماء الدين وأساتذة علم الاجتماع أجمعوا على حق الزوجة والأبناء في النفقة وليس من حقهم التنازل عنها، إلا أن بعضهن يتنازلن عنها عندما يعلم الزوج أن نقطة ضعف الزوجة هي الأبناء، وبأقل مجهود يخرج من المحكمة وبين يديه التنازل عن النفقة لتبدأ الأم رحلة المعاناة والحرمان.
(ن. ع) ربة منزل تروي حكايتها قائلة: تزوجت من رجل يعمل مدرساً، عشت معه خمس سنوات أنجبت خلالها طفلين، وطالت مدة زواجي منه وعانيت القسوة بسبب سهره بالخارج وعدم اهتمامه بالبيت والإنفاق عليه، ولكنه يهتم بنفسه وإنفاق الفلوس على مزاجه الخاص، وتحملت إهماله لنا وبخله على الصغار إلى أن قررت الانفصال عنه، وطلبت الطلاق منه، ثم بعد ذلك رفعت دعوى لأطلب حضانة الأولاد.
لكنه تصرف معي تصرفات غريبة حيث انتزع الصغار مني؛ لكي أعرض عليه التنازل عن نفقة الأولاد في مقابل أن يتركهم لي وقد كان، ولكنني في الحقيقة عجزت عن توفير مطالبهم، مما دفعني إلى اللجوء لبعض أقاربه للضغط عليه لكي يعيد نفقة الأولاد، ووجدته يساومني من جديد ولا أدرى ماذا أفعل.
(م. ع) ربة منزل تقول: بعد زواج دام اثنى عشر عاما من فني كهرباء وصاحب محل لبيع أدوات كهربائية أنجبنا خلالها طفلين، وبدأت الخلافات تدب بيننا بسبب زواجه من أخرى، وعدم إنفاقه علينا؛ فلم أجد أمامي سوى أن أقيم دعوى طلاق للضرر، وحكمت لي المحكمة بالطلاق، ولكن ظل على نفس الحال من عدم الإنفاق علينا، لذلك قررت التنازل عن النفقة مقابل حضانتي لأبنائي مدى الحياة.
لكن لم أقدر على استمرار الإنفاق عليهم بمفردي، خاصة أنني عانيت مرارة الاحتياج لأشتري الدواء لابني الأصغر وأنا أرى زوجي يتمتع بأمواله مع زوجة أخرى، ويمنحها كل ما يملك من مال، فرفعت دعوى نفقة لكن الحكم لم يصدر حتى الآن، وأنا والأولاد نعانى من تكاليف المدارس والمعيشة والأعياد وغيرها.
يؤكد الدكتور أحمد الطيب - مفتي مصر السابق أن نفقة الأولاد واجبة على الأب باتفاق العلماء سواء أمسك زوجته أم طلقها، وسواء كانت الزوجة فقيرة أم غنية فلا يلزمها الإنفاق على الأولاد مع وجود الأب، وفي حالة حضانة المطلقة للأولاد فإن نفقة الأولاد على أبيهم، وللحاضنة المرضعة أن تطلب أجرة إرضاعها الطفل، والنفقة على الأولاد تمثل المسكن والمأكل والمشرب وكل ما يحتاجون إليه، وتقدر بالمعروف.
ويراع فيها حال الزوج لقوله تعالى«فلينفق مما أتاه الله{، فإذا كان الزوج غنيا فالنفقة على قدر غناه، أو كان فقيرا أو متوسط الحال فعلى حسب حاله أيضًا، وفي حالة امتناع الزوج عن دفع النفقة فلتلجأ للقضاء، ولا يجوز لها في أي حال من الأحوال التنازل عن حق أبنائها حتى لو مارس الزوج عليها بعض الضغوط أو ساومها على النفقة، حيث يقوم كثير من الأزواج بأخذ الأطفال من أمهم كنوع من الضغط للتنازل عن النفقة مقابل أن يتركهم لها.
أما المفكر الإسلامي محمد عمارة فأشار إلى أن المشرع منح الزوجة حق رفع دعوى نفقة على زوجها في حال انفصالهما، وليس من حق الزوجة أن تتنازل عن نفقة الأولاد؛ لأن ذلك من حقهم حتى ينشئوا كأفراد صالحين في المجتمع، وإذا امتنع الأب عن النفقة على أولاده يسقط حقه في حضانتهم حتى ولو كان امتناعه من أجل الإضرار بالأم، فهذا يدل على أنه غير مؤتمن على مصالح أولاده، وللأم مطالبته عند القاضي بنفقة الأولاد مهما مارس عليها من ضغوط ومساومات، وبناء على ذلك إذا لم ينفق الأب على ابنه مثلاً، وكان الابن دون سن البلوغ، فإن لأمه أن تطالب بالنفقة له لأنها حاضنة، وهى المتولية لرعايته.
وإذا كان ذلك بعد البلوغ بتجاوزه الخامسة عشرة من عمره، فإنه ليس لأحد عليه حضانة لبلوغه، ويمكنه أن يطالب والده بنفقته مادام محتاجا، وليس لأمه أن تطالب والده بنفقته ولا بحكم الوكالة عنه. الدكتور محمود عاشور - وكيل الأزهر الأسبق ورئيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية أن النفقة حق للصغير شرعا وقانونا، ولكن في معركة ضم الأطفال قد تعرض الأم التنازل عن النفقة مقابل الاحتفاظ بهم، مما يحولها إلى فريسة تقع تحت رحمة الأب.
وبناء على ذلك يجب على الأم أن تضع في اعتبارها أن تكون قوية، ولا تتنازل عن نفقة أبنائها؛ لأنها حق أصيل لهم فهي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تصرف عليهم حتى لو كانت موظفة، ولكن هذا الحق يسقط إذا تزوجت؛ لأنها سوف تنشغل بزوجها الثاني عن القيام بخدمة أبنائها، ولتعارض المصالح مصلحة المحضون ومصلحة الزوج.
أما الدكتور عبد الرحمن العدوي - أستاذ التفسير بجامعة الأزهر فيرى أنه لابد أن ينفق الأب على أولاده سواء مع استمرار الزوجين أم انفصالهما، خاصة أن الأولاد وهم في سن صغيرة يحتاجون للرعاية الاجتماعية والمادية والصحية، أما في حالة الانفصال فإنه من حق الأم أن تحتضن أولادها، وتأخذ نفقتهم من الأب إلى أن يصلوا لسن البلوغ، وليس من حق الزوج بأي شكل من الأشكال أن يمارس ضغوطا على الأم لكي تتنازل عن النفقة، وحضانة الأم للأولاد تزول فورا إذا تزوجت بآخر؛ لأنها سوف تتفرغ للزوج الثاني، وبالتالي تنتقل الحضانة لأم الزوج.
وقال: نحن تعرض علينا حالات يومية من تلك المشاكل، فواحدة قالت لي إنني انفصلت عن زوجي بسبب بخله الشديد، رغم أنه ميسور الحال، ولكنه يصرف أمواله على أشياء تافهة خارج البيت، فرفعت دعوى نفقة ضده إلا أنه لم يتركني في حالي حيث قام بأخذ الأولاد مني، ومنعني من رؤيتهم إلى أن ذهبت إليه وساومني على التنازل عن دعوى النفقة في مقابل حضانتي للأولاد.
الدكتور عبد الله سمك - رئيس قسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر وصف الزوج الذي يمتنع عن الإنفاق على أولاده أو الضغط على الزوجة للتنازل عن النفقة مقابل حضانتها للأولاد بالظالم، وقال مثل هؤلاء لن يتركهم الله لأنهم لا يملكون التنازل عن النفقة لأنهم ملزمون شرعا بها.
وإذا كان الأولاد صغارا لابد أن يكونوا في حضانة الأم إلى أن يبلغوا سن الرشد؛ لأن الزوجة لا تستطيع أن تكفي كل احتياجات الأولاد، فالأم تقدر نفقة متعتها بربع راتب الزوج، أما نفقة الأولاد فتقدر بربع ثانٍ، والقاضي له حق الخيار في أن يقدر قيمة النفقة حسب عدد الأولاد وحالة والدهم، ولكن لابد أن نشير إلى أنه في أغلب الأحيان يكون الزوج مظلوما؛ لأنه توجد نساء متوحشات يأخذن النفقة ويطلبن المزيد وأمام المحكمة ينكرونها.
محمد عبد القادر المحامي بالنقض أكد عدم أحقية الزوجة بإعفاء زوجها من نفقة أولاده؛ لأن النفقة حق خالص للصغير، وكل مالها هو مجرد حق المطالبة بها لإنفاقها على الصغير، ولا يستطيع الإنسان أن يبرئ غيره من حق الآخرين، فإذا تنازلت الزوجة للزوج عن نفقة أولادها لا يلزمها هذا التنازل، ولها أن تطالب بالنفقة.
أما منير العبد المحامي فيرى أن نفقة الزوج على أولاده حق قانوني وشرعي لهم لا يستطيع الأب أن يتخلى عنها، كما لا تملك الأم أحقية التنازل عن النفقة لأنه حق مشروع لأولادها، ولا تسقط النفقة عن الابن إلا بعد أن يبلغ سن الرشد، ويستطيع أن يوفر احتياجاته الشخصية، أما بالنسبة للبنت فإن الأب ملزم بالنفقة عليها إلى أن تتزوج.
إلى هنا تؤكد الدكتورة سامية الساعاتي - أستاذ علم الاجتماع بالقاهرة أن النفقة حق من حقوق الزوجة على زوجها، ولا يحق لها التنازل عن حقها الشرعي، فالنفقة واجبة في إطار مشاعر الود والرحمة، والمشرع منح الزوجة الحق في رفع دعوى نفقة على زوجها؛ لأن بيت الزوجية لا يمكن أن يقام على المساومة بل هو مأوى للتراحم، وكلما كان المناخ داخل الأسرة صالحا وطيبا سينعكس ذلك على الأبناء، وبالتالي ينخرطون داخل المجتمع كأشخاص أسوياء مؤهلين لقيادة المجتمع.
القاهرة ـ دار الإعلام العربية

