كل العقلاء يسعون لجلب السعادة بالعلم أو بالمال أو بالحياة، وأسعدهم من يتمتع بقلب مطمئن سليم من الأمراض كالشك والسخط والريبة والشبهة والشهوة.قال تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد). (ق 37) وقال تعالى إجابة لسيدنا إبراهيم عندما أراد معرفة كيفية إحياء الموتى: «وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي». (البقرة 260).

قوله: أو لم تؤمن: عطف على مقدر، أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني اراءته (قال بلى) علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وانما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الخير كالمعاينة.

قال القرطبي ألا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى أن انبيائه وأوليائه ليس للشيطان عليهم سبيل وإذا لم يكن له عليهم سلطة فكيف يشكلهم، وإنما سأل ان يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين.

وإذا سلم قلب المسلم من الآفاق والأمراض كالشك وغيرها سلمت جوارحه وسيطر الإنسان على نفسه وصارت حركاته وسكناته لله وفي الله. فالقلب هو العالم بالله وهو المتقرب إلى الله وهو العامل لله والجوارح تبع له، ولو خشع القلب لخشعت الجوارح. فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله،

وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح العبد إذا زكاه، والذي ينتشر على الجوارح من العبارات أنواره ومن عرف قلبه عرف نفسه ومن عرف نفسه عرف ربه وصار في الطريق الموصل لمرضاة الله فيسعد في هذه الحياة قال الإمام علي رضي الله عنه: إن الله تعالى في أرضه أنية وهي القلوب، في فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها ثم فسره.

فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان وهذا اشارة إلى قوله تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) والعبد الذي يراقب حركاته وسكناته، وسكونه ونطقه، وقيامه وقعوده بحيث تكون كلها لله وفي الله، يستقر في قلبه العلم والحكمة واليقين والاطمئنان ويكون بعيدا عن الصفات المذمومة كالتكبر والعجب والصلف ولا تسيطر عليه شهوة حب الانتقام والظلم للآخرين،

والمسلم الموفق هو الذي يميل بنفسه إلى حد الاعتدال لضبط الشهوة وباقي الغرائز بالعفة والتقوى والورع والقناعة والحياء، واذا اراد الله بعبد خيرا جعل له واعظاً من قلبه كما جاء في الحديث الذي رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليهم وسلم، واسناده جيد.

والمسلم العاقل هو الذي يبتعد عن ارتكاب الذنوب لأنها تؤثر على القلب وأحواله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها (نظف وطهر) وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم) (رواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم) ولفظ ابن حبان وغيره: إن العبد إذا أخطأ خطيئة ينكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه.. الحديث.

قال تعالى: (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) قال ميمون بن مهران: ربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى: واتقوا الله واسمعوا (المائدة 108)

وقال تعالي: واتقوا الله ويعلكم الله.

فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب، ومعاصيه مسودات له، فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه ومن اتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه ولكن ينقص نوره. روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب اسود منكوص فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق بمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب،

ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها، وفي رواية ذهبت به. قال الله تعالى: (إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).إن جلاء القلب من الريب والشك والسخط يحصل بالذكر لأن هذه الأمراض إذا سيطرت على العبد صار في حيرة من أمره وزادت همومه وكلما تخلص منها وبنى كل تصرف له على ما تيقن أراح نفسه وسعد في دنياه.