يقول الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ ـ 28.

وما كانت هذه الرسالة العامة لأحد من الرسل من قبله: فموسى عليه السلام أرسل لبني إسرائيل خاصة، لقد اقتصرت دعوته على بني إسرائيل لدرجة أنه حينما ذهب هو وهارون عليهما السلام إلى فرعون قالا له:

(إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل) طه ـ 47.

فموسى ذهب إلى فرعون ليرسل معه بني إسرائيل، ولم يكافح سيدنا موسى الشعوب، أو الأمم في سبيل دعوته.

وعيسى عليه السلام إنما أرسل إلى.. «خراف بني إسرائيل الضالة» على حد تعبيرهم القديم ولم يحاول سيدنا عيسى أن يبشر بدعوته خارج فلسطين، ولم يحاول أن يجاهد من أجلها.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل إلى الناس جميعاً: إنه أرسل إلى الناس جميعاً من حيث المكان، وأرسل إليهم جميعاً من حيث الزمان فهو الرسول الدائم زماناً ومكاناً. «قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً».

وقد تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيقاً لقول الله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر ـ 9

ومن أجل هذا الوعد بحفظ الوحي كاملاً غير منقوص صحيحاً غير مزيف - كانت الحكمة الإلهية في أن الإنسانية لا تحتاج إلى رسول بعد الرسول، ولا إلى نبي بعد النبي، إنه صلوات الله وسلامه عليه خاتم الرسل، وخاتم الأنبياء.

ولقد امتزج رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة، فكان هو وهي شرحاً وتفصيلاً وكانت هي هو بياناً لمعدنه وجوهره، وخلافة له، ونيابة عنه.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «لقد كان خلقه القرآن».

وهذه الكلمة من السيدة عائشة رضوان الله عليها تحتاج إلى تحديد وبيان: ذلك أن القرآن يحدد الخلق الكريم في حده الأدنى، ثم لا يقتصر على ذلك، وإنما يرسي القمم من مكارم الأخلاق، ويوجه إلى السنام منها، ويقود إلى المشارف العليا من درجات المقربين.

فهل تريد السيدة عائشة رضوان الله عليها حينما تصفه صلى الله عليه وسلم بأن خلقه القرآن ـ هل تريد الخلق الكريم في حده الأدنى أو تريده في حده الأوسط أو تريده في حده الأسمى؟

إن القرآن يحدد الدرجة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم: من الخلق القرآني فيقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم ـ 4.

هذه الآية القرآنية الكريمة تحدد درجة الأخلاق القرآنية التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم إنها ذروتها وسنامها.

وقد قال صلوات الله وسلامه عليه «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» إنه صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم المكارم الأخلاقية: لم تكن ـ قبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه - قد تمت: إن أول المسلمين لم يكن قد وجد بعد، وكانت بذلك مكارم الأخلاق ناقصة كان ينقصها أكمل صفة لمكارم الأخلاق وهي إسلام الوجه لله إسلاماً تاماً. إن الكائنات لم تكن قد وصلت ـ لا في نبي مرسل ولا في ملك مقرب إلى الذروة من إسلام الوجه لله.

والذروة من إسلامنا الوجه لله أو أول المسلمين ـ والتعبيران سواء ـ إنما هي الذروة من مكارم الأخلاق.

إنه الكائن الرباني إنه أول المسلمين، أولهم بإطلاق، أولهم بالنسبة للملائكة، وأولهم بالنسبة لبنى آدم، أولهم قديماً إلى الأبد.. إن أول المسلمين لم يكن قد وجد بعد..

وكانت الإنسانية بذلك ناقصة وكانت الكائنات كلها بذلك ناقصة.

كان الكون مادة ومعنى كان ينقصه أن تتعطر أرضه بأزكى الأجساد، وأن يتعطر جوه بأزكى الأرواح، وكان لابد من وجود كائن بهذه المثابة يكمل الله به الدين، ويتم به النعمة ويرضى رسالته ديناً عاماً خالداً للإنسانية جمعاء: هو إسلامه الوجه لله.

وينزل القرآن محدداً إسلام الوجه لله وسائل، ومحدداً إسلام الوجه لله غايات محدداً إسلام الوجه لله طرقاً وأساليب، ومحدداً له بواعث وأهدافاً ومن هنا كان من يبتغي غير الإسلام ديناً لا يقبل منه. يقول الله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وكيف يقبل منه ما ينافي إسلام الوجه لله ؟

إن إسلام الوجه لله هو الذروة من مكارم الأخلاق وهو جوهر التدين، إنه الدين القيم، إنه الدين الخالد، والنص الوحيد، النص الإلهي الفريد في العالم كله الذي يبين كيفية إسلام الوجه لله - إنما هو القرآن. وإذا وصل الإنسان إلى إسلام الوجه لله كان بذلك في ذروة الإنسانية، وفي الذروة من مكارم الأخلاق.

ويتفاوت الناس في إسلام وجوههم لله، ولابد من أن يكون أحدهم أول المسلمين، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم أولهم بإطلاق مطلق.

(قل إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

ولم يصف القرآن بأول المسلمين شخصاً آخر غير الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومكارم الأخلاق لا يحدها ـ من حيث التبشير بها ـ مكان ويحدها زمان، بل يحدها عالم من عوالم الله في الأرض أو السماء، ومن أجل ذلك كانت رسالته صلوات الله عليه وسلامه رحمة للعالمين.

بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء ـ 107.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يمثل الأخلاق القرآنية في ذروتها وسنامها جعل الله سبحانه وتعالى له مكانة خاصة بين المسلمين: فهو صلوات الله وسلامه عليه - لأنه تمثل القرآن وحققه، وأصبح قرآناً ـ أصبح بذلك يمثل الحق بقوله، ويمثل الحق بعمله، فلا ينطق عن الهوى، ولا يعمل بالهوى.

يقول الله تبارك وتعالى له معبراً عن هذه الحقيقة أروع تعبير: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله..) الشورى ـ 52-53.

ويقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً) الأنعام ـ 16.

بل إن طريق الدعوة نفسه كان صلوات الله وسلامه عليه يسير فيه معصوماً، وكان من يسير في الدعوة على نسقه إنما يسير معصوماً بعصمة الرسول، صلى الله عليه وسلم التي منحها الله تعالى إياه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف ـ 108.

ودعوته إذن وطريق دعوته: يسير فيها على هدى، وعلى نور من ربه ولذلك فإن: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء ـ 80.

ويعمم الله سبحانه الحكيم تعميماً، ويطلقه إطلاقاُ، فيقول سبحانه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر ـ 7 ويقول تعالى:(وإن تطيعوه تهتدوا) النور ـ 54.

وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم علامة على محبة الله تعالى لمن يتبعه وسبب في حبه تعالى له (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..)

إن حب العبد لله لا يفيد ما لم يتخذ العبد الوسيلة الناجعة لذلك، وهذه الوسيلة هي: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي، رواه الإمام البخاري:» من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه ».

وهذه النوافل التي ذكرت في الحديث الشريف والتي إذا أكثر الإنسان منها بعد أداء الفرائض أحبه الله ـ إنما هي سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها طريق رسمه صلوات الله عليه وسلامه بقوله وبعمله، إنها سنته صلوات الله وسلامه عليه والتي سنها لينال بها محبة الله سبحانه.

وأحب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرسول بعبوديته لله سبحانه حبيب الله وبلغ الرسول صلوات الله عليه وسلامه بعبوديته التامة درجة أول المسلمين.

ولما كان أول المسلمين وكان حبيب الله ونبيه ورسوله - ميزه الله، سبحانه وتعالى على بقية البشر بكونه خيرهم، وهذا التمييز لا يخرجه صلوات الله عليه وسلامه عن البشرية: فهو بشر وهو خير البشر. ومنهى القول فيه أنه بشر ـ وأنه خير خلق الله كلهم ولأنه خير البشر يقول الله تعالى مخاطباً المؤمنين.

(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) النور ـ 63.

إن الإنسان الذي خصه الله بالوحي، واجتباه لرسالته، واصطفاه ليكون ـ باسمه، سبحانه ـ بشيراً ونذيراً ـ إن هذا الإنسان الذي فضله الله على العالمين يجب أن نعرف له مكانته وننزله في الشرف الذي أنزله الله فيه. إن هذا السراج المنير، إن هذا الرؤوف الرحيم ـ ينبغي ألا يدعى كما يدعى زيد وعمرو: «بمعنى لا تنادوه باسمه: فتقولوا.

يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم. بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم، والتكريم والتوقير بأن تقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، يا إمام المرسلين، يا رسول رب العالمين، يا خاتم النبيين».

فلا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم، لا في حياته ولا بعد وفاته فبهذا يعلم أن من استخف به صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة ويقول الله سبحانه في أول سورة الحجرات:

(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أي لا تقدموا بأمر من الأمور قولاً كان أو فعلاً إلا إذا أذن الله ورسوله: وكل أمر قولاً كان أو فعلاً أتاه الإنسان بدون إذن الله ورسوله فإنه لا يقع على السنن المستقيم.

إعداد: رجاء علي